ذكرناه فاعلم إن الماء هو الحياة التي تحيا بها القلوب فيحصل به الطهارة لكل قلب من الجهل قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها هذا ضرب مثل في الكفر والايمان والعلم والجهل وأما ماء البحر الذي وقع فيه الخلاف الشاذ فكونه مخلوقا من صفة الغضب والغضب يكون عنه الطرد والبعد في حق المغضوب عليه والطهارة مؤدية إلى القرب والوصلة فهذا سبب الخلاف في الباطن وأما العلة في الظاهر فتغير الطعم فمن رأى أن الغضب لله يؤدي إلى القرب من الله والوصلة به رأى الوضوء بماء البحر وإليه أذهب ومن اتسع في علم التوحيد ولم يلزم الأدب الشرعي فلم يغضب لله ولا لنفسه لم ير الوضوء بماء البحر لأنه مخلوق من الغضب فيخاف أن يؤثر فيه غضبا فتقوم به صفة الغضب وحاله لا تعطي ذلك فإن التوحيد يمنعه من الغضب لأنه في نظره ما ثم من يغضب عليه لاحدية العين عنده في جميع الأفعال المنسوبة إلى العالم إذ لو كان عنده مغضوب عليه لم يكن توحيد فإن موجب الغضب إنما هو الفعل ولا فاعل إلا الله وهذه المسألة من أشكل المسائل عند القوم وإن كانت عندنا هينة الخطب لمعرفتنا بمواضع الأدب الإلهي الذي شرعه لنا ثم التخلق بالأخلاق الإلهية ومنها الغضب الذي وصف به نفسه في كتابه فقال تعالى وغضب الله عليه ولعنه وقوله في آية اللعان والخامسة أن غضب الله عليها وقد جاءت السنة بأن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فهذا الذي لا يغضب لا يرى إلا الله فيحكم عليه حاله وهذا مقام الحيرة فالويل له إن غضب هنا والويل له إن لم يغضب في الآخرة فهو محجوج بكل حال دنيا وآخرة والغضب لله أسلم وأنجى وأحسن بالإنسان فإن فيه لزوم الأدب المشروع ولما كان الغضب في أصل جبلة الإنسان كالجبن والحرص والشرة بين الحق له مصارف إذا وقع من العبد واتصف به وللتسليم محال ومواضع قد شرعت التزم بها الأدباء حالا وغاب عنها أصحاب الأحوال ولعدم التسليم محال ومواضع قد شرعت فالأديب هو الواقف من غير حكم حتى يحكم الشارع الحق وهو خير الحاكمين فإذا حكم وقف الأديب حيث حكم لا يزيد ولا ينقص والغضب صفة باطنة في الإنسان قد يكون لها أثر في الظاهر وقد لا يكون فإن الحال أغلب والأحوال يعلو بعضها على بعض في القهر والغلبة على من قامت بهم فإن جمع بين وجود الرحمة على المغضوب عليه في قلبه وحكم الغضب لله في حسه وظاهره فإن أهل طريق الله نظروا أي الطريقين أعلى وأحق فمنا من قال بأن الغضب القائم بالنفس أعلى ومنا من قال وجود الرحمة في القلب وإرسال حكم الغضب لله في الظاهر أعلى وليس بيد العبد فيه شئ وإنما العبد مصرف فهو بحسب ما يقام فيه ويرد به وما للإنسان في تركه وعدم تركه للشئ فعل بل هو مجبور في اختياره إذا كان مؤمنا فإنا قيدنا الغضب أن يكون لله وأما الغضب لغير الله فالطبع البشري يقتضي الغضب والرضي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر الحديث وقد علمنا به حالا وخلقا لله الحمد على ذلك وأما حكم الماء الآجن في الباطن دون غيره مما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا فاعلم إن الله سبحانه ما نزه الماء عن شئ يتغير به مما لا ينفك عنه غالبا إلا الماء الآجن فقال تعالى في صفة أهل الجنة الموصوفة بالطهارة فيها أنهار من ماء غير آسن يقال أسن الماء وأجن إذا تغير وهو الماء المخزون في الصهاريج وكل ماء مخزون يتغير بطول المكث فإذا عرض للعلم الذي به حياة القلوب من المزاج الطبيعي أمر أثر فيه كالعلم بأن الله رحيم فإذا رأى رحمته بعباد الله كما يراها من نفسه من الرقة والشفقة التي يجد ألمها في نفسه فيطلب العبد إزالة ذلك الألم الذي يجده في نفسه برحمة هذا الذي أدركته الرحمة عليه من المخلوقين قام له قيام الرقة به وحمل ذلك على رحمة الله فتغيرت عنده رحمة الله بالقياس على رحمته فلم ينبغ له أن يطهر نفسه لعبادة ربه بمثل هذه الرحمة الإلهية وقد تغيرت عنده وعلة ذلك أن الحق ما وصف نفسه بالرقة في رحمته فالحق يقول لك هنا لا تجعل طبيعتك حاكمة على حياتك الإلهية ومن يرى الوضوء بالماء الآجن لم يفرق فإن الحق قد وصف نفسه في مواضع بما يقتضيه الطبع البشري فيجري الكل مجرى واحدا والأولى ما ذكرناه أولا أن لا نزيد على حكم الله شيئا فيما ذكر عن نفسه وأما حكم الباطن في العلم القليل إذا وردت عليه الشبه المضلة وأثرت فيه التغير فإنه لا يجوز له استعمال ذلك العلم فإنه غير واثق به وإن كان عارفا بأن لذلك العلم وجها إلى الحق ولكن ليس في قوته لضعف علمه معرفة تعيين ذلك الوجه فيعدل عند ذلك إلى العلم الذي يستهلك الشبه وهو العلم الذي يأخذه عن الايمان من
(٣٥٠)