إنهم كانوا عالمين بحقيته، كما نطق به القرآن، ومع ذلك لم يكونوا منقادين له قلبا ولا مقرين به باطنا، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي، لزم أن يكونوا مؤمنين به حقيقة، أو جعل الإيمان الذي هو أكمل كمالات النفس، مجرد الإقرار اللساني، وكلاهما مما لا يمكن الالتزام به فافهم جيدا.
32 - قوله: الحق هو الثاني لشهادة الوجدان إلخ (1):
قد عرفت في مبحث التجري (2) أن ملاك استحقاق العقوبة انطباق عنوان هتك الحرمة والظلم على المخالفة للتكليف، ومن الواضح: أن عدم الالتزام قلبا مع كمال الالتزام عملا لا يكون هتكا ولا ظلما، إذ الغرض من التكليف انقداح الداعي إلى فعل ما هو موافق لغرض المولى، وعدم المبالاة بأمر المولى إنما يكون هتكا وظلما إذا انجر (3) إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه.
نعم، إذا كان الالتزام قلبا واجبا شرعا كان تركه هتكا وظلما، والحاصل أن الغرض عدم اقتضاء التكليف بفعل للالتزام به قلبا، عقلا، لا عدم وجوبه شرعا ولا عدم وجوب الالتزام بما ورد منه تعالى أو من رسوله شرعا، أو عقلا، فالكلام في مقتضيات التكليف المعلوم عقلا، وإلا فلزوم الالتزام بما جاء به النبي (ص) غير مختص بالثابت في حق المكلف، بل ولو كان في حق الغير، مع أن لزوم تصديق النبي (ص) فيما أتى به معناه أن ما أوجبه (ص) واجب من قبله تعالى، وهو يجتمع مع عدم الالتزام بما أوجبه تعالى - فتدبر جيدا.
ثم إن هذا كله لو كان الغرض من هذا البحث بيان شؤون التكليف المعلوم من حيث الإطاعة والمعصية عقلا، وأما إن كان الغرض بيان المانع من إجراء (4) الأصل وعدمه كما هو المناسب لمباحث الأصول العملية، فلا فرق بين أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة المخالفة الالتزامية من مقتضيات التكليف المعلوم عقلا، وأن يكون بدليل آخر عقلا ونقلا، فإنه يمنع عن جريان الأصل