وقعت قطرات من ماء الغسل في الإناء الذي يغتسل منه: " ومن البديهي أن نضح قطرات يسيرة في ماء الإناء لا يوجب صدق عنوان " الماء المستعمل " عليه، لاستهلاك القطرات في ضمنه، وهذا لا بمعنى استهلاك الماء في الماء، فإن الشئ لا يستهلك في جنسه - بل يوجب ازدياده - بل بمعنى أنه يوجب ارتفاع عنوانه، فلا يصدق على ماء الإناء أنه ماء مستعمل " (1).
والمقصود بالبحث هنا هو الاستهلاك بالمعنى الثالث، وهو تفرق أجزاء المستهلك في المستهلك فيه، وأهم موارده هو الاستهلاك الناشئ من غلبة المستهلك فيه على المستهلك، بل هذا هو القدر المتيقن الذي ينصرف إليه لفظ " الاستهلاك ".
وأما بالمعنى الأول، فقد تقدم الكلام عنه إجمالا في عنوان " إتلاف " وسوف يأتي في العنوانين: " ضمان " و " غصب " ونحوهما.
وأما بالمعنى الثاني، فقد تقدم الكلام عنه في عنوان " استحالة ".
الفرق بين الاستحالة والاستهلاك:
لا إشكال في أن هناك فرقا أساسيا بين الاستحالة والاستهلاك - بالمعنى المقصود - وقد فرق بعض الفقهاء بينهما بما حاصله:
أن الاستحالة عبارة عن: تبدل حقيقة الشئ وصورته النوعية (1) - وإن كانت المادة المشتركة باقية - كتبدل الخشب بالإحراق إلى الرماد، أو كتبدل الحيوان بوقوعه في المملحة إلى الملح، أو كتبدل القطرة من الدم إلى التراب، ونحو ذلك.
فيقال: كان هذا الرماد خشبا، وكان هذا الملح كلبا، وكان هذا التراب دما.
وأما الاستهلاك، فهو عبارة عن: انعدام الشئ عرفا، وإن كان موجودا واقعا، مثل انعدام القطرة من الدم في إناء كبير من الماء، فإنه لا يبقى شئ من الدم بحسب الظاهر حتى يشار إليه، وإن كانت أجزاؤه متفرقة بين أجزاء الماء.
ولذلك لو تمكنا من استخراج هذه القطرة من الماء بآلة أو بمادة كيمياوية، فسوف يكون حكمها النجاسة أيضا، لأن أجزاء نفس الدم السابق اجتمعت وكونت هذا الدم. بخلاف ما إذا استحالت القطرة من الدم ترابا ثم تمكنا من استخراج الدم من التراب، فإن هذا الدم ليس هو الدم السابق، بل هو نوع جديد من الدم، ولذلك لا تشمله أدلة نجاسة