وأنساهم الموقف والمشاهدة، فالمنسي المشاهدة والموقف والثابت المعرفة، وبها تتم الحجة، وفي الدنيا هم غفلوا عنها واشتغلوا بالدنيا، فأرسل تعالى أنبياءه لرفع الغفلة والتذكر إلى المعرفة الثابتة في قلوبهم، ولذلك * (لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض و... ليقولن الله... فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * ولذلك القرآن ذكر وتذكرة وذكرى للبشر. والرسول إنما هو مذكر وبذلك تمت الحجة وعظمت النعمة، وبصرف النسيان لا يصح الإنكار كما إنا في عالم الرؤيا ننسي الدنيا وما ومن فيها أفيصح الإنكار؟! وكذلك نحن في الدنيا غافلون وناسون، جاء الأنبياء لرفع الغفلة والنسيان، وليس لنا قياس الخلق كلهم بأنفسنا فنقول: لا يذكرها أحد ولا يقدر عليه أحد مع أنه قال تعالى: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) * * (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون) * أيكلف الله خلقه بما لا يقدرون؟
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): فواتر إليهم أنبيائه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته - الخ.
فمما ذكرنا ظهر الجواب عن الثاني وأن النسيان غير ثابت للكل إلا من طريق قياس الأقل بالأكثر، وعلى فرض النسيان لا يصح الإنكار كما في عالم الرؤيا ننسي الدنيا. والتناسخ باطل وكفر وهو دخول الروح بعد خروجه من بدنه في بدن آخر ليثاب أو يعاقب، وليس هنا كذلك فإن هذا البدن عين البدن الذر المخلوق في عالم الذر إلا أنه كبر في هذه الدنيا.
وعن الثالث أن الميثاق اخذ من كل بني آدم وقوله: * (من ظهورهم) * يكون الأخلاف في أصلاب الأسلاف، فأخرج من كل الظهور من آدم وبنيه ما فيه كما تقدم، وقوله: * (أن تقولوا) * - الخ بيان حكمة لما فعله، ولعله خطاب للمخاطبين بهذه الآيات وأنه فعل ذلك لئلا يقول المشركون * (إنا كنا عن هذا غافلين) * أو يقولوا: * (إنما أشرك آبائنا) * لا أن يقول كل واحد واحد كل ذلك.
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن الرابع والخامس.