آخرها، فأنشأ قلعة أخرى ثم تسلموها بعد أربعين يوما بالأمان. قال ابن عربشاه وأمر ان يبني مقابلها بناء أعلى منها، فجمعوا الأخشاب وبنوا برجا من جهة الشمال والغرب، وفوض امر الحصار للأمير جهان شاه فنصب عليها المجانيق ونقب السور وكان فيها من المقاتلة عدد قليل فطلبوا الأمان ونزلوا اليه بعد محاصرتها ثلاثة وأربعين يوما وذلك في شهر رجب 803.
وصار في هذه المدة يتطلب الأفاضل وأصحاب الحرف والصنائع، ونسج الحريريون له قباء بالحرير والذهب ليس له درز، وبنى في مقابر الباب الصغير قبتين متلاصقتين على تربة زوجات النبي ص وأمر بجمع العبيد الزنوج واعتنى بشأنهم. وكان في صفد تاجر يدعى علاء الدين فاهدى إلى تيمور هدايا نفيسة وارسل اليه مرسوم أمان له ولأهل بلده، ولما رحل تيمور عن دمشق أرسل علاء الدين قاصدا ومعه هدايا نفيسة وطلب اليه اطلاق طنبغا العثماني نائب صفد وعمر بن الطحان نائب غزة وكانا في اسره، فدعاهما وذكر لهما شفاعة علاء الدين بهما ثم أطلقهما وأعطى فرسين للعثماني وفرسا لعمر بن الطحان نائب غزة ثم ارسل معهما من أبلغهما مأمنهما وأوصلهما إلى بلديهما. قال ابن عربشاه واستمر النهب العام في المدينة نحوا من ثلاثة أيام. وقال ابن حجر وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها فاحترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية ولم يبق غير جدرانه قائمة انتهى ومن تصفح ما مر يعلم أن ما جرى على الشام كان بسوء تصرف أمرائها وغرورهم واستخفافهم بتيمور فكانوا تارة يقتلون رسله والرسل لا تقتل وأخرى يقتلون الأسرى، وضعف أجوبة علمائها وتعصبهم ليزيد، حتى كان أقصى ذمهم له ان بعضهم رأى في حاشية كتاب انه يجوز لعنه، ولو داروه وصانعوه لما وقعوا فيه، فقد داراه كثير من الملوك والأمراء فأبقاهم على ملكهم، وأعرض عن أهل حمص فلم يقربها، واكتفى من أهل طرابلس بمال دفعوه، وأمن أهل صفد بشفاعة تاجر منهم وهديته، وشفعه في نائبي صفد وغزة وأكرمهم وصافاه بعض امراء دمشق فولاهما، وتعرض جماعة من عسكره للغارة فصلبوا في الحريريين، والقول بان ذلك كان مخادعة لا يقبله عقل، فلم يكن تيمور يخاف من أعظم منهم حتى يخادعهم.
رسالة صاحب مصر اليه في عجائب المقدور ان سلطان مصر لما هرب ارسل إلى تيمور كتابا مع رجل اسمه بيسق يهدده فيه ويقول ما مضمونه لا تظن أننا هربنا منك وخفناك ولكن بعض مماليكنا خرج علينا وأراد مثلك الفساد وهلاك العباد والبلاد والعاقل إذا أصابه مرضان داوى الأخطر منهما انك أهون الخطبين وأحقر الرجلين فثنينا العزم إلى تأديب ذلك الرجل ثم نكر عليك كرة الأسد الغضبان ونضيق عليك وعلى عسكرك المسالك وندعكم بين أسير وهالك فتطلبون الخلاص ولات حين مناص.
قال إلى غير ذلك من أمثال هذه الترهات التي هي كالملح على الجروح وكحركة المذبوح، ولو كان بدل هذا الهذيان والكلام الذي لا طائل تحته ما يستميل قلبه مع بعض الهدايا والاعتذار واظهار الندم لكان ربما كسر من غضبه وانما فعلوا ذلك بعد حريق الشام وفوات الأمر كما قال الشاعر وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل وقال الآخر ذو الجهل يفعل ما ذو العقل يفعله * في النائبات ولكن بعد ما افتضحا قال بيسق فلما أعطيته الكتاب وقرئ عليه قال لي ما اسمك؟
قلت بيسق، قال ما معنى بيسق؟ قلت لا أدري، قال إذا كنت لا تعرف معنى اسمك فكيف تصلح أن تكون رسولا، ولولا أن عادة الملوك أ لا يهيجوا الرسل بأذى لصنعت معك ما أنت أهله مع أنه لا لوم عليك بل على من أرسلك بل لا لوم عليه أيضا لأن ذلك مبلغ علمه وفهمه. ثم قال اذهب وانظر القلعة فذهبت فوجدتها قد دكت دكا ثم رجعت فقال لي ان مرسلك أقل من أن اراسله ولكن قل له اني واصل إليك فليشمر ذيله للفرار، ثم امر بي فأخرجت فذهبت إلى مصر، ثم وقع النهب والقتل العام في البلد ثلاثة أيام وبعده الحريق واحترق جامع بني أمية انتهى.
رحيله عن دمشق قال ثم رحل تيمور عن دمشق يوم السبت ثالث شعبان سنة 803 بعد ما أقام بها ثمانين يوما وأخذ معه من أعيان الشام قاضي القضاة محيي الدين بن العز الحنفي بعد ما عوقب وولده شهاب الدين فوصلا إلى تبريز ثم رجعا إلى الشام وقاضي القضاة شمس الدين النابلسي الحنبلي وقاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي وغيرهم، ومن الأمراء الأمير تيخاص. وخرج مع تيمور بالاختيار عبد الملك بن التكريتي فولاه نيابة سيرام وهي وراء سيحون، ويلبغا الملقب بالمجنون وكان مقربا عنده لأنه كان مناصحا له فولاه ينكي بلاس وراء نهر خجند تبعد 15 يوما عن سمرقند، وأخذ من دمشق أهل الصنائع من النساجين والخياطين والحجارين والاقباعية والبياطرة والخنيمية والنقاشين والفواسين والبازدارية وفرقهم على رؤساء الجند ليوصلوهم إلى سمرقند، وأخذ جمال الدين رئيس الطب وأخذ شهاب الدين احمد الزردكاش وكان في القلعة وأباد من عسكر تيمور خلقا كثيرا وكان قارب التسعين فقيده من فوق ركبتيه قيدا زنته سبعة أرطال ونصف رطل بالدمشقي فلم يزل مقيدا حتى مات تيمور. ولما قرب رحيله عن دمشق جاءها الجراد ولم يزل معه في طريقه إلى بغداد.
وفي خطط الشام وأرسل تيمور إلى صاحب مصر سودون نقيب قلعة دمشق يعتذر له مما جرى و يطلب قريبه الذي كان أسر في أيام الملك الظاهر برقوق وانه إذا أطلقه يطلق ما عنده من الأسرى فاطلقه السلطان وكساه وأحسن اليه، فلما وصلوا إلى تيمور أكرمهم وقبل مراسيم السلطان وتفارش وبكى واعتذر مما وقع منه وقال هذا كان مقدرا. وكان علماء القدس انتدبوا الشيخ محمد فولاذ بن عبد الله وجهزوه بمفاتيح الصخرة إلى تيمور فلما كان بالطريق بلغه رجوعه فرجع وقيل إن تيمور أراد ان يفتح مصر فأرسل جماعة من قواده يكشفون له الطرق، فلما عادوا قصوا عليه ما رأوه وهو ساكت فقال لهم ان مصر لا تفتح من البر بل تحتاج إلى أسطول لتفتح من البحر، ولما رحل تيمور عن دمشق نصب صاحب مصر المقر السيفي تغري بردي في نيابة دمشق، ورسم له ان يخرج إلى الشام من يومه ليعمر ما خربه تيمور، ونصب نوابا آخرين على نيابات الشام ممن كانوا في أسر تيمور فأطلقهم مثل نائب الكرك ونائب طرابلس ونائب حماة ونائب بعلبك ونائب صفد وغيرهم، فرجم أهل دمشق نائب الشام سنة 804