وأنا أقطف ثمار رسائله وأستقي من قليب علمه. أشيم بارقة أدبه وأرد ساحل بحره واستوكف قطر مزنه. فيقول كذبت وفجرت لا أم لك ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام كلامي في السماء وكلامك في السماد. هذا أيدك الله وإن كان دليلا على سوء جدي فإنه دليل أيضا على انخلاعه وخرقه وتسرعه ولؤمه.
بل ما ذنبي إذا قال لي هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح فأقول نعم رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا وفيما تقدم منه كذا وكذا وفيما تكلفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا ووصل أبا سعيد السيرافي بكذا وكذا ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فينزوي وجهه وينكر حديثه وينجذب إلى شئ آخر مما شرع فيه ولا مما حرك له ثم يقول أعلم أنك إنما انتجعته من العراق فاقرأ علي رسالتك التي توسلت اليه بها وأسهبت مقرظا له فيها فأتمانع فيأمر ويشدد فاقرأها فيتغير ويذهل ثم يقال لي من بعد جنيت على نفسك حين ذكرت عدوه عنده بخير وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس.
وقال أبو حيان: وكان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ وكان الصواب غالبا عليه وله رفق في سرد حديث ونيقة في رواية له وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الإشارة والعبارة وهذا شئ عام في البغداديين وكالخاص في غيرهم. حدثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده ثم قيل لي بعده أنه كان يقول قاتل الله أبا حيان فإنه نكد وانه وأكره أن أروي ذمي بقلمي وكان ذلك كله حسدا وغيظا بحتا.
وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها فقال لي يا أبا حيان أنها تضر بالمشايخ فقلت إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل فكأني ألقمته حجرا وخجل واستحيا ولم ينطق إلى أن فرغنا انتهى.
ومما أخذه أبو حيان التوحيدي على الصاحب ما حكاه أبو حيان عن الخليلي أنه قال سمعت الصاحب يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر وإن قلت كيف تجيد وإن أجدت فكيف تغزر وإن غزرت فكيف تروم غاية وأنت لا تعرف ما الزهزيق وما الهبلع وما العثلط وما الجلعلع وما القهقب وما القهبلس وما الخيسوب وما الخزعبلة وما القذعملة وما العرموط وما الجرقاس وما اللؤومس وما النعثل وما الطريال وما الفرق بين العرم والردم والحدم والحذم والقضم والخضم والنضح والرضح والفصم والقصم والقصع والفصع وما العنقس وما العكنفس وما الوكال والرومل وما الحيتعور واليستعور وما الستعون وما الجردون وما الحلزون وما الفقندر وما الجمعليل قال الشاعر:
جاءت بخف وحنين ورحل * جاءت تمشي وهي قدام الإبل مشي الجمعليلة بالخرق النقل ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول وحنين وزجل قال أبو حيان قلت للخليلي من عنى بهذا قال ابن فارس معلم ابن العميد أبي الفتح انتهى. وإذا صح هذا عن الصاحب فهو من باب المفاكهة والمطايبة والإشارة إلى معرفته بغريب اللغة ووحشيها والتحدث بنعمة العلم وإظهار البراعة في الحفظ والرواية وكان الصاحب عارفا بغريب اللغة وكل من عرف أمرا غريبا من علم أو غيره يجب أن يحدث عنه وليس مراده أن الشاعر يجب أن يدخل في شعره أمثال هذه الألفاظ ليرد عليه أن الشاعر يطلب نظما حلوا وكلمة رشيقة كما أورده الخليلي فيما حكاه أبو حيان. والذي يدل على ذلك أن الصاحب لم يكن يستعمل مثل هذا في رسائله أو شعره بل كان مشهورا باختيار اللفظ المأنوس ولا تكاد تجد له لفظة وحشية في رسائله أو في شعره.
كيف وهو في رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي ينعى على أبي الطيب استعماله الغريب والوحشي فيقول: واطم ما يتعاطاه بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة حتى كأنه وليد خباء أو غذي لبن ولم يطا الحضر ولم يعرف المدر.
وأبو حيان مع كثرة تحامله على الوزيرين الصاحب وابن العميد واستقصائه في إظهار معائبهما لم يسعه إلا الاعتراف بتفردهما بالفضل وتوحدهما بالنبل فكان بذلك مكذبا لنفسه ورادا عليها فإنه عندما قارب الفراع من كتابه في أخلاق الوزيرين قال على ما في معجم الأدباء: ولولا أن هذين الرجلين أعني ابن عباد وابن العميد كانا كبيري زمانهما وإليهما انتهت الأمور وعليهما طلعت شمس الفضل وبهما ازدانت الدنيا وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا والقبيح يؤثر عنهما أثرا لكنت لا أتسكع في حديثهما هذا التسكع ولا أنحني عليها بهذا الحد ولكن النقص ممن يدعي التمام أشنع والحرمان من السيد المأمول فاقرة والجهل من العالم منكر والكبيرة ممن يدعي العصمة جائحة والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب. ولو أردت مع هذا كله إن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجبل والديلم إلى وقتك هذا المؤرخ في الكتاب لم تجد انتهى.
تشيعه لا ريب في تشيعه وكونه إماميا اثني عشريا فعن السيد رضي الدين علي بن طاوس الحلي العلوي الحسني في كتاب اليقين في فضائل أمير المؤمنين أنه نص على تشيعه. ومر عن المجلسي الأول وصفه بأنه من أفقه فقهاء أصحابنا. ومر عن ولده في مقدمات بحاره أنه كان من الامامية. وذكره القاضي نور الله في مجالس المؤمنين في عداد وزراء الشيعة. ومر قول صاحب أمل الآمل أنه كان شيعيا إماميا. وعده ابن شهرآشوب في شعراء أهل البيت المجاهرين كما مر، ويأتي عند ذكر تلاميذه عد الشهيد الثاني له من أصحابنا. وفي مستدركات الوسائل: نقلنا في ترجمة عبد العظيم الحسني رسالة للصاحب في أحوال عبد العظيم وفيها من الدلالة على إماميته ما لا يخفى على ذي مسكة، ويأتي نقل تلك الرسالة في ترجمة عبد العظيم انش ومر أنه نقش أسماءهم ع على خاتمه ويأتي ذلك عن الصدوق وقد صرح بالتشيع في أشعاره مكررا في مواضع تنبو عن حد الاحصاء ولا تحتمل التأويل وسيأتي جملة منها. وقال الصدوق المعاصر له والساكن معه في الري في مقدمة كتابه عيون أخبار الرضا: وقع إلى قصيدتان من قصائد الصاحب الجليل كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد أطال الله بقاءه وأدام توفيقه ونعماءه في أهداء السلام إلى الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع فصنفت هذا الكتاب لخزانته المعمورة ببقائه إذ لم أجد شيئا آثر عنده وأحسن موقعا لديه من علوم أهل البيت ع لتعلقه أدام الله عزه بحبلهم واستمساكه بولايتهم واعتقاده لفرض طاعتهم وقوله بإمامتهم وإكرامه لذريتهم وإحسانه إلى شيعتهم قاضيا بذلك حق إنعامه علي ومتقربا به إليه لأياديه الزهر عندي ومننه الغر لدي ومتلافيا بذلك تفريطي الواقع في خدمة حضرته راجيا به قبوله لعذري وعفوه عن تقصيري وتحقيقه لرجائي فيه