الكتاب الذي يذكر فيه الوزير أو غيره حوادث السنة كالتي تسمى اليوم الروزنامة والسالنامة إن الصاحب قال: انتهيت إلى أبي سعيد السيرافي وهو شيخ البلد وفرد الأدب وحسن التصرف ووافر الحظ من علوم الأوائل فسلمت عليه وقعدت اليه وبعضهم يقرأ عليه الجمهرة فقال المقت فقلت إنما هو لمقت فدافعني الشيخ ساعة ثم رجع إلى الأصل فوجد حكايتي صحيحة واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:
رسم دار وقفت في طلله * كدت أقضي الغداة من جلله بتشديد الضاد فقلت أيها الشيخ هذا لا يجوز والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين لأن:
رسم دار وقفت في طلله فاعلاتن مفاعلن فعلن كدت أقضي الغداة من جلله مفتعلن فاعلاتن مفتعلن فذاك من الخفيف وهذا من المنسرح فقال لم لا تقول الجميع من المنسرح والمصراع الأول مخزوم فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر لأن أوله مستفعلن مفاعلن هذه مزاحفة عنه وإذا حذفنا متحركا بقينا ساكنا وليس في كلام العرب ابتداء به وإنما هو: كدت أقضي الغداة من جلله بتخفيف الضاد فامر بتغييره ورفعني إلى جنبه وابتدأ فقرئ عليه من كتاب المقتضب باب ما يجري وما لا يجري إلى أن ذكر سحر وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه لأنه معدول عن الأول فقلت ما علامة العدل فيه فقال إنا قلنا السحر ثم قلنا السحر فعلمنا أن الثاني معدول عن الأول قلت لو كان كذلك لوجب أن تطرد العلة في عتمة لأنك تقول العتمة ثم تقول عتمة فضجر واحتد وأربد وادعيت أنه ناقص والتمس التحاكم فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر وقد أنفذت درج كتابي نسختها وفيها خط أبي عبد الله بن رذامر عين مشايخهم ورأيت الشيخ بعد ذلك غزيرا فاضلا متوسعا عالما فعلقت عليه وأخذت عنه وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه وقرأت صدرا منه وهناك أبو بكر بن مقسم وما في أصحاب ثعلب أكثر دراية ولا أصح رواية منه وقد سمعت مجالسه وفيها غرائب ونكت ومحاسن وطرف من بين كلمة نادرة ومسالة غامضة وتفسير بيت مشكل وحل عقد معضل وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم ورواياتهم ولغاتهم. والقاضي أبو بكر بن كامل بقية الدنيا في علوم شتى يعرف الفقه والشروط والحديث وما ليس من حديثنا ويتوسع في النحو توسعا مستحسنا وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة وفي جودة التصنيف قوة تامة ومن كبار رواة المبرد وثعلب والبحتري وأبي العيناء وغيرهم وقد سمعت صدرا صالحا مما عنده وكنت أحب أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق لما تتابع في حذقهم من الأوصاف. وذكر أبا زكريا يحيى بن عدي وغيره ومناظرات جرت هناك يطول شرحها. قال أبو إسحاق الصابي:
حضر الصاحب أبو القاسم ابن عباد دار الوزير المهلبي عند وروده إلى بغداد مع مؤيد الدولة فحجب عنه لشغل كان فيه فكتب إلي رقعة لطيفة لم نحب نقلها لما فيها من المجون فاقرأتها الوزير المهلبي فامر بادخاله وقال:
وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه فتثاقل في القيام له وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته وقصور نهضته فاخذ الصاحب بضبعه وأقامه وقال نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه فخجل أبو السائب واعتذر اليه. وفي معجم الأدباء عن القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة أن نظير ذلك جرى لعبد العزيز بن محمد المعروف بابن أبي عمرو السرائي مع أبي السائب المذكور قال فتثاقل في القيام لي فجررت يده حتى أقمته القيام التام وقلت أعين القاضي أيده الله على إكمال البر وتوفية الإخوان حقوقهم وكنت عاتبا عليه وإنما جئته للخصومة فلما رأى الشر في وجهي قال تفضل لاستماع كلمتين ثم قل ما شئت: روينا عن ابن عباس في قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل قال عفو بلا تقريع فاستحييت وانصرفت انتهى وفي معجم الأدباء من كتاب الروزنامجة قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذاكرونني بابن شمعون المتصوف وكلامه على الناس في مكان الشبلي فجمعت يوما في المدينة وعلي طيلسان ومصمتة ووقفت عليه وقد لبس فوطة قصب وقعد على كرسي ساج بوجه حسن ولفظ عذب فرأيته يقطع مسائله بهوس ويطلبه ويسهب فيه فقلت لا بد من أن أساله عما أقطعه به وابتدرت فقلت يا شيخ ما تقول في قد سيكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم فورد عليه ما لم يسمع به فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب واخذ في ضرب من الهذيان فلما سكت قلت هذا بعد التوهم وإنما سألتك قبله إلى أن ضجر فانصرفت عنه انتهى وكل هذا يدل على علو همة الصاحب فهو قد دخل بغداد لحاجة فلم يكتف حتى حضر مجالس مشاهير العلماء وأخذ عنهم وأفادهم واستفاد منهم وزار الوزراء والقضاة وحضر مجالس أهل النظر ومجالس الصوفية وأخجلهم ولما عاد الصاحب من بغداد أخذ معه أبا الحسن البديهي إلى أصبهان. وكان من جملة العلماء الذين استدعاهم إلى الري قاضي القضاة عبد الجبار الباقلاني المعتزلي فبقي فيها مواظبا على التدريس إلى أن توفي ولكن عبد الجبار لم يشكر ما أسداه إليه الصاحب من النعمة ففعل معه بعد وفاته ما مر وما يأتي في آخر الترجمة. واستهوته محاسن بغداد حتى حسن لفخر الدولة الاستيلاء عليها كما يأتي.
خبر المتنبي مع الصاحب في مدة كتابة الصاحب لمؤيد الدولة ورد المتنبي على ابن العميد وطمع الصاحب في زيارة المتنبي إياه بأصفهان ومدحه فكتب اليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يعرج المتنبي عليه وتعاظم عن مدحه بعد ما كان يمدح الملوك والوزراء فعمل الصاحب في انتقاده رسالة ذكرت في مؤلفاته وهو وإن كان الباعث له على عملها استياؤه من عدم مدحه إياه إلا أنه لم يظلمه فيها بشئ ولم ينتقد شعره بشئ غير صحيح كما فعل أبو حيان التوحيدي مع الصاحب وقد مر خبر المتنبي مع الصاحب مفصلا في ترجمة المتنبي أحمد بن الحسين في الجزء الثامن من هذا الكتاب.
وزارة الصاحب لمؤيد الدولة وما تقدمها كان ابن العميد وزيرا لركن الدولة فلما توفي ابن العميد سنة 360 استوزر ركن الدولة ولده أبا الفتح علي بن محمد بن العميد ولما مات ركن الدولة في المحرم سنة 366 وولي ولده مؤيد الدولة بلاده بالري وإصبهان وتلك النواحي وورد من أصبهان إلى الري خلع على أبي الفتح علي ابن أستاذ الصاحب محمد بن العميد الكاتب المشهور وزير أبيه خلع الوزارة