الزوار ومن يجري مجرى ذلك مما يتكلفه ونريد به صيت الدنيا وأجر الآخرة يزيد على مائة ألف دينار انتهى ومرض الصاحب بالاسهال وهو بالأهواز فكان إذا قام عن الطست ترك إلى جانبه عشرة دنانير حتى لا يتبرم به الخدم فكانوا يودون دوام علته ولما عوفي تصدق بنحو خمسين ألف دينار وأما عطاياه للشعراء فكانت تفوق الحد ولولا ذلك لما مدح مائة ألف قصيدة كما مر وقد سبق أنه عرض على المتنبي أن يشاطره ماله في سبيل قصيدة يمدحه بها كل ذلك يدلنا على أن نفس الصاحب كانت تسمو إلى معالي الأمور وارتفاع الذكر وقد علم أن الجود والكرم من أعظم أسباب الشهرة وامتلاك القلوب وتخليد الذكر وأن لا وسيلة أنجح من ذلك لبلوع تلك الغاية فجاد عن طبع وسيجة وقوى ذلك بالتطبع وما كل من تسمو نفسه إلى معالي الأمور ويعلم أن من أعظم أسبابها الجود تطاوعه نفسه عليه كما قال المتنبي:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى * ولكن طبع النفس للنفس قائد ولئن لم يكن كل بذل الصاحب طلبا لمرضاته تعالى فلا شك أن كثيرا منه كان كذلك على أن طلب العز والرفعة بالجود يمكن أن يصرف إلى طلب الأجر والثواب وخير مالك ما وقيت به عرضك وفي اليتيمة: حدثني عون عوف بن الحسين الهمذاني التميمي قال كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت الحسابات لكاتبها وكان صديقي مبلغ عمائم الخز التي صارت تلك الشتوة في خلع العلوية والفقهاء والشعراء سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزور الفاخرة الملونة فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا فسال الصاحب عنه فقيل إنه في مجلس كذا يكتب فقال: علي به فاستمهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه فأعجله الصاحب وأمر بان يؤخذ ما في يده من الدرج فقام الزعفراني إليه وقال أيد الله الصاحب:
اسمعه من منشده تزدد به عجبا فحسن الورد في أغصانه قال هات يا أبا القاسم أبياتا منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى * ويأمره الحرص أن يخزنا وأنت ابن عباد المرتجى * تعد نوالك نيل المنى وخيرك من باسط كفه * وممن تناها قريب الجنى غمرت الورى بصنوف الندا * فأصغر ما ملكوه الغنى و غادرت أشعرهم مفحما * وأشكرهم عاجزا الكنا أيا من عطاياه تهدي الغنى * إلى راحتي من ناى أو دنا كسوت المقيمين والزايرين * كسا لم يخل مثلها ممكنا وحاشية الدار يمشون في * صنوف من الخز إلا أنا ولست أذكر لي جاريا * على العهد يحسن أن يحسنا فقال الصاحب قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له احملني أيها الأمير فامر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية ثم قال له لو علمت أن الله خلق مركوبا غير هذه لحملتك عليه. وأنا فقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناك ثم أمر بادخاله الخزانة وصب تلك الخلع عليه وتسليم ما فضل عن لبسه إلى غلامه.
قال الثعالبي وحدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي قال: سمعت الصاحب يقول: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي فلما تقوض المجلس وانصرف القوم وقد حل الافطار أنكرت ذلك فيما بيني وبين نفسي واستقبحت إغفاله الأمر بتفطير الحاضرين مع وفور رياسته واتساع حاله واعتمدت أني لا أخل بما أخل به إذا قمت يوما مقامه فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر كائنا من كان فيخرج من داره الا بعد الافطار عنده وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة.
بعض آثاره العمرانية عن تاريخ المستوفي القزويني أن من جملة آثاره تجديده عمارة سور قزوين الأول بعد ما أشفى على الخراب وكان قد أسسه الرشيد وبناه على ست ومائتي برج وسبعة أبواب وقرر لأصل البلدة أيضا تسعة محلات مذكورة بأسمائها وذلك في حدود سنة 373 بعد أصل بناء البلدة بمئة وعشرين سنة وبني الصاحب أيضا لنفسه في محلة الجوسق عمارات عالية عميت آثارها من بعده فسميت مواضعها بمحلة صاحب آباد انتهى.
تعصبه للعرب وبغضه الشعوبية مع أنه فارسي الأصل الصاحب وإن كان فارسي الأصل فإنه عربي الدين والأدب وقد كان حبه للاسلام واطلاعه على علوم الدين وإعجابه بأدب العرب غالبا على عصبيته لأصله فهو يحب العرب ويبغض الشعوبية ومن شعره في هذا المعنى قوله في رجل يتعصب للفرس على العرب ويعيب العرب في أكل الحيات كما في اليتيمة:
يا عائب الأعراب من جهله * لأكلها الحيات في الطعم فالعجم طول الليل حياتهم * تناسب في الأخت وفي الأم قال بديع الزمان الهمذاني: كنت عند الصاحب كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد يوما إذ دخل عليه شاعر من الفرس فأنشده قصيدة يفضل بها قومه على العرب وذكر الأبيات الآتية وفي نسخة مخطوطة قديمة جدا من شرح المفصل للزمخشري والشارح غير معلوم رأيناها في كربلاء في مكتبة الشيخ عبد الحسين الطهراني ذكر في أولها في شرح قوله وجبلني على الغضب للعرب ما لفظه: والشعوبية بضم الشين قوم متعصبون على العرب مفضلون عليهم الفرس وإن كان الشعوب جيل الفرس إلا أنه غلبت النسبة إليهم بهذا القبيل ويقال إن منهم معمر بن المثنى له كتاب في مثالب العرب أنشد بعض الشعوبية الصاحب بن عباد:
غنينا بالطبول عن الطلول * وعن عنس عذافرة ذمول وأذهلني عقار عن عقاري * ففي إست أم القضاة مع العدول فلست بتارك إيوان كسرى * لتوضح أو لحومل فالدخول وضب في الفلا ساع وذئب * بها يعوي وليث وسط غيل يسلون السيوف لرأس ضب * حراشا بالغداة وبالأصيل إذا ذبحوا فذلك يوم عيد * وإن نحروا ففي عرس جليل بآية رتبة قدمتموها * على ذي الفضل والرأي الأصيل أما لو لم يكن للفرس إلا * نجار الصاحب القوم الجليل لكان لهم بذلك خير فخر * وجيلهم بذلك خير جيل