المقايسة بين الصاحب وشيخه ابن العميد الصاحب هو تلميذ ابن العميد وصنيعته ووارثه في الوزارة والطابع على غراره في السياسة والأدب والمربى عليه في الجود والأبهة.
يتشابه الوزيران في الأدب ومناحيه وأساليبه ويختلفان في العلم والأخلاق فابن العميد طويل الباع في الفلسفة وفروعها غير متمكن من العلوم الدينية راجح العقل قليل الكلام ذو تؤدة وروية في أعماله وأقواله لا يحب التعاظم والتبجح في علمه وعمله. والصاحب عالم في أصول الدين وفروعه يقدم النص على العقل منحرف عن الفلسفة وأصحابها معجب بنفسه فخور بعلمه وأدبه مأخوذ بمظاهر العظمة والخيلاء تياه على الكبراء والرؤساء حاضر البديهة قوي الحجة شديد العارضة طلق اللسان محكم الجواب سريع النكتة كثير الجدل يتكلم بلسانه وأعضائه قال أبو حيان التوحيدي: كان أبو الفضل بن العميد إذا رأى الصاحب قال: احسب عينيه ركبتا من زئبق وعنقه عمل بلولب.
وأراد الصاحب أن يسير على سنن أستاذه ابن العميد فكان له ما أراد وفق ما أراد في العلوم الشرعية واللسانية دون علوم الحكمة وفاق ابن العميد في كثرة التاليف. وقال أبو حيان التوحيدي قلت لأبي السلم نجبة بن علي القحطاني الشاعر أين ابن عباد من ابن العميد فقال زرتهما منتجعا وزرتهما جميعا وكان ابن العميد أعقل وكان يدعي الكرم وابن عباد أكرم ويدعي العقل وهما في دعواهما كاذبان وعلى سجيتهما جاريان. أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في ظل دولة * جمال ولا مال تمنى انتقالها وما ذاك من بغض لها غير أنه * يؤمل أخرى فهو يرجو زوالها فرفع إليه إنشادي فاخذني وأوعدني وقال انج بنفسك فاني إن رأيتك بعد هذا أولغت الكلاب دمك وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهو فرفع الحديث إليه فدعاني ووهب لي دريهمات وخريقات وقال لا تتمن انتقال دولتنا بعد هذا انتهى.
ولم ننقل هذا لاعتقادنا أو ظننا بصحته بل هو من وساوس الشعراء الذين يتبعهم الغاوون وإنما نقلناه لاشتماله على المقايسة بين الوزيرين التي نحن بصددها فكان علينا ذكر كل ما يتعلق بها واشتماله على تفضيل الصاحب على ابن العميد في الكرم الذي ربما يكون له صحة.
خبره مع أبي حيان التوحيدي وقدمنا ذكره هنا على بقية اخباره ليكون توطئة لما يأتي من كلام أبي حيان في حقه الذي هو من تتمة أقوال المترجمين فيه. أبو حيان التوحيدي هو علي بن محمد بن العباس النحوي اللغوي أملى مجلدة في ذم الصاحب بن عباد وذم ابن العميد سماها ثلب الوزيرين أو ذم الوزيرين وقد قيل إن هذا من الكتب المجدودة ما ملكه أحد إلا انعكست أحواله والله أعلم. وله كتاب الامتاع والمؤانسة جزءان تعرض فيه للصاحب بالمدح والقدح ذكرهما ياقوت في معجم الأدباء وذكرهما غيره وذكر له ياقوت أيضا كتاب أخلاق الوزيرين نقل عنه في ترجمة الصاحب ولم يذكره في ترجمة أبي حيان فيمكن أن يكون هو كتاب ثلب الوزيرين وفي المنقول عن كتاب الثلب وكتاب الأمتاع تحامل كثير على الصاحب وذم له بما هو برئ منه. أما سبب هذا التحامل والذم فقد مر عن لسان الميزان قوله أن الصاحب كان يبغض من يميل إلى الفلسفة ولذلك أقصى أبا حيان التوحيدي فحمله ذلك على أن جمع مصنفا في مثالبه أكثره مختلق. وقال ياقوت في معجم الأدباء أن أبا حيان كان قصد ابن عباد إلى الري فلم يرزق منه فرجع عنه ذاما له وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام فاجتهد في الغض من ابن عباد وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح وايضاح مكارمه فصار ذمه له مدحا فمن ذلك أنه بعد أن فرع من الاعتذار عن التصدي لثلبه قال فأول ما أذكر من ذلك ما أدل به على سعة كلامه وفصاحة لسانه وقوة جأشه وشدة منته وإن كان في فحواه ما يدل على رقاعته وانتكاث مريرته وضعف حوله وركاكة عقله وانحلال عقده ثم ذكر ما جرى له لما رجع من همذان وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة أبي حيان ما صورته قال الذهبي: كان سئ الاعتقاد ثم نقل قول ابن فارس في كتاب الفريدة والخريدة كان أبو حيان كذابا قليل الدين والورع: ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعدائه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على سوء عقيدته وما يلصقه باعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار انتهى ويظهر من ذلك سبب آخر لوقيعة في الصاحب غير ما ذكره ياقوت والله أعلم. وقد تعصب أبو حيان كثيرا على الصاحب وسلبه محاسنه والذي يظهر أن أبا حيان لم يرض عن الصاحب أما لأنه كان أمل منه أكثر مما وصله به أو لأنه طبع على التأفف والسخط أو لأنه طلبه ليقتله كما قيل فلما لم يرض عنه هجاه بهذا الذي يأتي نقله عنه وهو ذو لسان ذلق وبلاغة. وقد كان هذا دأب الشعراء يهجون من لم يرضوا عن جوائزه بأقبح الهجو ويمدحون الناس بما فيهم وما ليس فيهم طلبا لجوائزهم وأبو حيان كان كاتبا بليغا أكثر منه شاعرا فهجا الصاحب لما لم يرض عنه بنثره البليغ كما يهجو الشاعر بشعره فذمه للصاحب وابن العميد لا قيمة له في عالم الحقيقة كما لا قيمة لهجو الشعراء في عالمها نعم له قيمته الأدبية التي تترك أثرا في النفوس على ممر الدهور وكيف يصدق أبو حيان في ثلب رجلين هما من أجل أعيان زمانهما ولا يضر ذمه هذا في جلالة قدرهما فما زالت الأمجاد تهجى وتمدح. ونحن ننقل ما حكاه ياقوت في معجم الأدباء عن كتاب الامتاع لأبي حيان بما فيه من حق وباطل وما ذم به الصاحب وتحامل به عليه مما هو