وقال أبو حيان: قال الصاحب يوما فعل وأفعال قليل وزعم النحويون أنه ما جاء الا زند وازناد وفرخ وأفراخ وفرد وأفراد فقلت له أنا أحفظ ثلاثين حرفا كلها فعل وأفعال فقال هات يا مدعي فسردت الحروف ودللت على مواضعها من الكتب ثم قلت ليس لنحوي أن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطردا وهذا كقولهم فعيل على عشرة أوجه وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجها وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه. فقال خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك ولا نهب آذاننا لكلامك ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا وتبسطك في حضرتنا.
وقال أبو حيان: قال لي ابن عباد يوما يا أبا حيان من كناك بأبي حيان قلت أجل الناس في زمانه وأكرمهم في وقته قال ومن هو ويلك قلت أنت قال ومتى كان ذلك قلت حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان فاضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه. قال: وقال لي يوما آخر وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني وكان شيخا كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث والتميمي المعروف بسطل وكان من مصر والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء يا أبا حيان هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية قلت نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارمي حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق قال حدثنا ابن الأنباري قال حدثنا أبي قال حدثنا ابن ناصح قال دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق لمن تعرف هذا الشعر:
سباك من هاشم سليل * ليس إلى وصله سبيل من يتعاطى الصفات فيه * فالقول في وصفه فضول للحسن في وجهه هلال * لا عين الخلق لا يزول وطرة ما يزال فيها * لنور بدر الدجى مقيل ما اختال في صحن قصر أوس * إلا ليسجى له قتيل فان يقف فالعيون نصب * وإن تولى فهن حول فقال أبو الهذيل يا أمير المؤمنين هذا الرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارمي وكان يقول بامامة المفضول وله من كلمة يقول فيها:
أفضله والله قدمه على * صحابته بعد النبي المكرم بلا بغضة والله مني لغيره * ولكنه أولاهم بالتقدم وجماعة من أصحابنا قالوا أنشد أبو قلابة عبد الله بن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري:
يا صاحبي دعا الملام واقصرا * ترك الهوى يا صاحبي خساره كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي * لجت يمين ما لها كفاره أن لا أفيق ولا أفتر لحظة * إن أنت لم تعشق فأنت حجاره الحب أول ما يكون بنظرة * وكذا الحريق بداؤه بشراره يا من أحب ولا اسمي باسمها * إياك أعني فاسمعي يا جاره فلما وفيت الشعر ورويت الاسناد وريقي بليل ولساني طلق ووجهي متهلل وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه وملأت الدار صياحا بالرواية والقافية فحين انتهيت أنكرت طرفه وعلمت سوء موقع ما رويت عنده. قال ومن تعرف أيضا قلت روى الصولي فيما حدثنا عنه المرزباني أن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلا:
لو أن حيا نجا لفات أبو * حيان لا عاجز ولا وكل الحول القلب الأريب وهل * يدفع صرف المنية الحيل قال الصولي وهذا كان من المعمرين المغفلين وانتهى الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية بل على اكفهرار وجه ونبو طرف وقلة تقبل.
وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة 370 راجعا إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهما واحدا ولا ما قيمته درهم واحد أحمل هذا على ما أردت ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به واحفظني عليه وجعلني من جميع حاشيته فردا أخذت أملا في ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه والبادئ أظلم وللأمور أسباب وللأسباب أسرار والغيب لا يطلع عليه ولا يقارع لبابه.
وقال أبو حيان: قال لي الصاحب يوما وهو يحدث عن رجل أعطاه شيئا فتلكأ في قبوله ولا بد من شئ يعين على الدهر ثم قال: حالت جماعة عن صدر هذا البيت فما كان عندهم قلت أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب فقال: ما هو؟ قلت نسيت، فقال ما أسرع ذكرك من نسيانك، قلت ذكرته والحال سليمة فلما استحال عن السلامة نسيت، قال وما حيلولتها؟ قلت نظر الصاحب بغضب فوجب في حسن الأدب ألا يقال ما يثير الغضب قال ومن تكون حتى نغضب عليك دع هذا وهات. قلت قول الشاعر:
ألام على أخذ القليل وإنما * أصادف أقواما أفل من الذر فان أنا لم آخذ قليلا حرمته * ولا بد من شئ يعين على الدهر فسكت.
قال أبو حيان عند قربه من فراع كتابه في ثلب الوزيرين وقد حكى عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه ثم قال: فما ذنبي أكرمك الله إذا سالت عنه مشايخ الوقت واعلام العصر فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان على أني قد سترت شيئا كثيرا من مخازيه أما هربا من الإطالة أو صيانة للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح وذكر ما يسمج مسموعه ويكره التحدث به هذا سوى ما فاتني من حديثه فاني فارقته سنة 370. وما ذنبي إن ذكرت عنه ما جرعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل وحملني عليه من الاخفاق بعد الطمع مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن حتى كأني خصصت بخساسته وحدي أو وجب أن أعامل به دون غيري. قدم إلى نجاح الخادم وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلدة من رسائله وقال يقول لك مولانا انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان فقلت بعد ارتياع: هذا طويل ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقرأ كالغرر وشذورا كالدرر تدور في المجالس كالشمامات والدسثبويات لو رقي بها مجنون لأفاق أو نفث على ذي عاهة لبرئ لا تمل ولا تستغث ولا تعاب ولا تسترك.
فرفع ذلك اليه وأنا لا أعلم فقال طعن في رسائلي وعابها ورغب عن نسخها وازرى بها والله لينكرن مني ما عرف وليعرفن حظه إذا انصرف حتى كأني طعنت في القرآن أو رميت الكعبة بخرق الحيض أو عقرت ناقة صالح أو سلحت في بئر زمزم أو قلت كان النظام مابونا أو مات أبو هاشم في بيت خمار أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا... حتى أعذره في لومي على الامتناع أينسخ انسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره أو ينفعه ببدنه. ثم ما ذنبي إذ قال لي من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت؟ فقلت وكيف لا يكون كما وصف