وهو يدين بالوعيد وقد قال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيقلبه جده صوابا حتى كأنه عن وحي وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل لكان معلما في مصطبة على شارع أو في دار لتان فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه واستحقاره واستكباره واعادته وابدائه وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم عن المعلمين ويكون فرحهم به سببا للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراية هذا قول صاحب الامتاع فيه انتهى قال المؤلف انفرد أبو حيان التوحيدي بهذا الذي ذكره في الحط من شان الصاحب وخالف في ذلك جميع المؤرخين والمترجمين الذين ذكروا الصاحب بكل تعظيم وتبجيل ووصفوه بكل وصف جميل وبالغوا في مدحه والباعث له على ذلك ما مر في صدر الكلام من اتباع طريقة الشعراء في هجو من لم يرضوا جائزته على أنه يفهم من كلام ياقوت هناك أن ثلب الكرام كان طبيعة له وجبلة فهو كالعقرب تلدع النبي والكافر وأبو حيان منسوب إلى التزيد والوضع والمبالغة ولا باس بان نشير إلى بعض ما في كلامه من الخلل والفساد والتحامل على الصاحب بدون استقصاء. يقول التوحيدي: والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة بل هو إمامي كما ستعرف وإن وافق المعتزلة في بعض الأصول المعروفة التي توافقهم فيها الامامية قال وكتابته مهجنة بطرائقهم وأي تهجين في كتابته بطريقة العدلية التي قد تكون هي الصواب وأمور المذهب لا تهجن ولا تحسن وأي تهجين بذلك وهو يعد من كتاب الدنيا قوله وليس له من الجزء إلهي الخ دعوى بلا برهان قوله وليس بذاك بل شعره مطبوع جيد قوله بديهته غزارة الخ كلام يكذب نفسه فمن يقدر عند البديهة لا يمكن أن يعجز عند الروية وقوله بتشيع بمذهب أبي حنيفة الخ غير صحيح فهو إمامي إثنا عشري لا حنفي ولا زيدي كما ستعرف وقوله لا يرجع إلى التاله الخ محض افتراء فالمنقول من أحواله يدل على تألهه ورقته ورأفته ورحمته وكفى في رحمته عدم معاقبة من قيل عنه أنه وضع سما في الماء كما يأتي وعدم قبوله الوشاية وأما قوله أنه ينخدع بالمدح. فان الكريم إذا خادعته انخدع مع أن ذلك كسابقه لم نعلم صحته وأما زعمه أنه يعمل الشعر ويدفعه إلى أبي عيسى المنجم فيكذبه أن من يقول الثعالبي المعاصر له في حقه كما مر أنه اجتمع ببابه من الشعراء من يربي عددهم على شعراء الرشيد الذي لم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء ما اجتمع ببابه ومن مدح بأربعة عشر ألف قصيدة لا يحتاج أن يقول شعرا وينحله أبا عيسى ليمدحه به وأما قوله لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا الخ فيكذبه أن أبا عيسى شاعر أورد له في اليتيمة جملة أشعار منها قوله:
آخ من شئت ثم رم منه * شيئا تلف من دون ما تروم الثريا وقوله:
رغيف أبي علي حل خوفا * من الأسنان ميدان السماك إذا كسروا رغيف أبي علي * بكى يبكي بكاء فهو باكي وبنو المنجم على العموم شعراء أدباء أورد صاحب اليتيمة أشعارا لجملة منهم وأما حديث البيتين الآخرين فحاله حال ما سبق ولو صح لم يكن فيه عيب ولعل الرجلين كانا مستحقين لذلك الذم أو كان من باب المفاكهة فعمل فيهما هذين البيتين ولم يشأ نسبتهما إلى نفسه قوله والذي غلطه الخ فيه أن المخطئ لا بد أن يجبه بالتخطئة إن لم يكن من جميع الناس فمن بعضهم قوله فتراه عند هذا الهذر الخ فيه إن من لا يؤثر فيه المدح لا يؤثر فيه الذم فهو ساقط أما ما أطال به التوحيدي من ألفاظ التشدق بقوله يتشاجى الخ وألفاظ البذاء. من قوله ويحاكي المومسات فناشئ عن شئ في نفسه وعادة أتبعها قوله وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به الخ فيه أن صاحبه لم يكن ليثق به لولا ما رأى من حسن تدبيره وسياسته قوله وبالجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة الخ أقول كفى في تكذيبه شهادة من سمعت بأنه كثير المحاسن جم الحسنات وأن الغنى لم يكن سببا في غفران سيئاته وأما قوله لو أن عجوزا بلهاء الخ فمما يضحك الثكلى فإنه لأي سبب ولما ذا أمن أن يقال له لم فعلت ولم لم تفعل وأطرف شئ قوله أنه يدين بالوعيد فمذهبه أشهر من نار على علم وهو برئ من القول بالوعيد براءة الذئب من دم يوسف فقس على هذا القول باقي أقواله وأما اسناده التوفيق في أعماله إلى الصواب إلى الحظ فكلام ساقط فمتى كان الحظ يسوق من شرع في أمر على الخطا إلى الصواب حتى كأنه عن وحي وأما قوله لكان معلما في مصطبة الخ فحاله حال ما سبق من تحامله وتجاهله والله ولي عباده.
ومما حكاه عنه أبو حيان وهو يريد ثلبه وتنقيصه ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء قال: قال أبو حيان: دخل يوما دار الامارة الفيرزان المجوسي في شئ خاطبه به فقال له إنما أنت محش مجش مخش لا تهش ولا تبش ولا تمتش فقال الفيرزان: أيها الصاحب برئت من النار أن كنت أدري ما تقول ان كان رأيك أن تشتمني فقل ما شئت بعد أن علم فان العرض لك والنفس لك فداء لست من الزنج ولا من البربر كلمنا على العادة التي عليها العمل والله ما هذا من لغة آبائك الفرس ولا أهل دينك من أهل السواد وقد خالطنا الناس وما سمعنا منهم هذا النمط فقام مغضبا.
قال وكان ابن عباد يقول للانسان إذا قدم عليه من أهل العلم يا أخي تكلم واستأنس واقترح وانبسط ولا ترع واحسبني في جوف مربعة ولا يروعك هذا الحشم والخدم والغاشية والحاشية وهذه المرتبة والمصطبة وهذا الطاق والرواق وهذه المجالس والطنافس فان سلطان العلم فوق سلطان الولاية فليفرح روعك ولينعم بالك وقل ما شئت وابصر ما أردت فلست تجد عندنا الا الإنصاف والاسعاف والاتحاف والأطراف والمواهبة والمقاربة والمؤانسة والمقابسة. ومن كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره ويجري في هذا الميدان فيطيل حتى إذا استوفى ما عند ذلك الإنسان بهذه الزخارف والحيل وسار الرجل معه في حدوده على مذهب الثقة فحاجه وضايقه وسابقه ووضع يده على النكتة الفاصلة والأمر القاطع تنمر له وتغير عليه ثم قال يا غلام خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس وضعه فيه بعد أن تصب على كاهله وظهره وجنبيه خمسمائة سوط وعصا فإنه معاند ضد يحتاج أن يشد بالقد ساقط هابط كلب وقاح أعجبه صبري وغره حلمي ولقد أخلف ظني وعدت على نفسي بالتوبيخ وما خلق الله العصا باطلا فيقام ذلك البائس على هذه الحالة وليس الخبر كالعيان من لم يحضر ذلك المجلس لم ير منظرا رفيعا ورجلا رفيعا.