منه برئ ثم نبين بعض ما فيه من مخالفة الواقع قال ياقوت: ووصفه صاحب الامتاع فقال: كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئا وأخذ من كل فن طرفا والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وكتابته مهجنة بطرائقهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد وليس له من الجزء إلهي خبر ولا له فيه عين ولا أثر وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك وبديهته غزارة وأما رويته فخوارة وطالعه الجوزاء والشعرى فقرينة منه ويتشيع بمذهب أبي حنيفة ومقالة الزبدية ولا يرجع إلى التاله والرقة والرأفة والرحمة والناس كلهم يحجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبطشه شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب بذئ اللسان يعطي كثيرا قليلا يعني يعطي القليل في دفعات كثيرة مغلوب بحرارة الرأس سريع الغضب بعيد الفيئة قريب الطيرة حسود حقود وحسده وقف على أهل الفضل وحقده سار إلى أهل الكفاية أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته وأما المنتجعون فيخافون جفوته وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة نخوة وبغيا وتجبرا وزهوا ومع هذا يخدعه الصبي ويخلبه الغبي لأن المدخل عليه واسع والمأتي اليه سهل وذلك بان يقال: مولانا يتقدم بان أعار شيئا من كلامه ورسائله منظومة ومنثورة فما جبت الأرض اليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه لكأنما رسائل مولانا سور قرآن وفقره فيها آيات فرقان واحتجاجه من أثنائها برهان فسبحان من جمع العالم في واحد وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بان يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل الإذن عليه والوصول اليه والتمكن من مجلسه فهذا هذا ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول له قد نحلتك هذه القصيدة امدحني بها في جملة الشعراء وكن الثالث من المنشدين فيفعل ذلك أبو عيسى وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك فينشد فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ومدحه من تحبيره أعد أبا عيسى فإنك والله مجيد زه يا أبا عيسى قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي مجالس تخرج الناس وتهب لهم الذكاء وتزيدهم الفطنة وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا ثم لا يصرفه عن مجلسه الا بجائزة سنية وعطية هنيئة ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا. قال يوما من في الدار فقيل له أبو القاسم الكاتب وابن ثابت فعمل في الحال بيتين وقال لانسان بين يديه إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل قد قلت بيتين فان رسمت لي انشادهما أنشدتهما وأزعم أنك بدهت بهما ولا تجزع من تأففي بك ولا تفزع من تكبري عليك ودفع البيتين إليه وأمره بالخروج إلى صحن الدار وأذن للرجلين حتى وصلا فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة وأخذ يتلمظ يري أنه يقرض شعرا ثم قال: يا مولانا قد حضرني بيتان فان أذنت أنشدت قال له أنت إنسان أخرق سخيف لا تقول شيئا فيه خيرا اكفني امرك وشعرك قال يا مولانا هي بديهتي وإن كسرتني ظلمتني وعلى كل حال فاسمع فان كانا بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال أنت لحوح هات فأنشد:
يا أيها الصاحب تاج العلا * لا تجعلني نهزة الشامت لملحد يكنى أبا قاسم * ومجبر يعزى إلى ثابت فقال قاتلك الله لقد أحسنت وأنت مسئ قال لي أبو القاسم وكدت اتفقا غيظا لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا ثم حدثني الخادم الحديث بقضه والذي غلطه في نفسه وحمله على الاعجاب بفضله والاستبداد برأيه أنه لم يجبه قط بتخطئة ولا قوبل بتسوئة لأنه نشا على أن يقال أصاب سيدنا وصدق مولانا ولله دره ما رأينا مثله من ابن عبد كان مضافا اليه ومن ابن ثوابة نقيسه عليه ومن إبراهيم بن العباس الصولي من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما قد استدرك مولانا على الخليل في العروض وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء وعلى الإسكافي في الموازنة وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات وعلى ابن مجاهد في القراءات وعلى ابن جرير في التفسير وعلى أرسطاطاليس في المنطق وعلى الكندي في الجزوء وعلى ابن سيرين في العبارة وعلى أبي العيناء في البديهة وعلى أبي خالد في الخط وعلى الجاحظ في الحيوان وعلى سهل بن هارون في الفقر وعلى يوحنا في الطب وعلى ابن يزيد في الفردوس وعلى عيسى بن كعب في الرواية وعلى الواقدي في الحفظ وعلى النجار في البدل وعلى بني ثوابة في التقفية وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس وعلى مزيد في النوادر وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى وعلى بني برمك في الجود وعلى ذي الرياستين في التدبير وعلى سطيح في الكهانة وعلى أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة أبي دليجة:
الألمعي الذي يظن بك الظن * كان قد رأى وقد سمعا فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم ويطير فرحا به وينقسم ويقول ولا كذي ثمرة. السبق لهم وقصرنا أن نلحقهم أو نقفو أثرهم وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك ويلوي شدقه ويبتلع ريقه ويرد كالآخذ ويأخذ كالمتمنع ويغضب في عرض الرضا ويرضى في لبوس الغضب ويتهالك ويتمالك ويتفاتك ويتمايل ويحاكي المومسات ويخرج في أصحاب السماجات وهو مع هذا يظن أنه خاف على نقاد الأخلاق وجهابدة الأحوال. وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلة سماعه من الناصح فيه فازداد دلالا ونزقا وعجبا واندراء على الناس وازدراء للصغار والكبار وجبها للصادر والوارد وفي الجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة ولكن الغنى رب غفور:
ذريني للغنى أسعى فاني * رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم * وإن أمسى له حسب وخير ويقصيه الندي وتزدريه * حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال * يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم * ولكن الغني رب غفور فان قيل كيف تتم له الأمور مع هذه الصفات قلت والله لو أن عجوزا بلهاء أو أمة ورهاء أقيمت مقامه لكانت الأمور على هذا السياق لأنه قد امن أن يقال له لم فعلت ولم لم تفعل وهذا باب لا يتفق لأحد من خدم الملوك الا بجد سعيد ولقد نصح صاحبه الهروي في أحوال تاوبة وأمور من النظر عارية فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها ثم قتل الرافع خنقا هذا