متطلسا متحنكا بزي أهل العلم فقال قد علمتم قدمي في العلم فأقروا له بذلك فقال وأنا متلبس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي ومع هذا فلا أخلو من تبعات أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته واتخذ لنفسه بيتا وسماه بيت التوبة ولبث أسبوعا على ذلك ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته ثم خرج فقعد للاملاء وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف اليه ستة كل يبلغ صاحبه فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار وكان عالما باللغة وألف فيها كتابه العظيم المحيط في عشرة مجلدات وجوهرة الجمهرة وهو معدود من الثقات في رواية اللغة وقد جعله الثعالبي أحد أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في كتابه فقه اللغة أمثال الليث والخليل بن أحمد وسيبويه وخلف الأحمر وثعلب والأصمعي وابن الكلبي وابن دريد وأشباههم وروى عنه ذلك الكتاب فصل ترتيب الشرب وباب الحجارة وعده الأنباري في طبقات الأدباء من علماء اللغة وكذلك السيوطي في بغية الوعاة وكان عالما بالعروض وألف فيه كتابين الاقناع ونقض العروض ومشاركا في التاريخ مؤلفا فيه عدة كتب ككتاب المعارف وكتاب الوزراء وأخبار أبي العيناء وتاريخ الملك واختلاف الدول وأخبار عبد العظيم الحسيني وكتاب الزيديين وكان عارفا بالرجال وأهل الفرق ففي مرآة الزمان لليافعي عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر أنه قال حكي لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلاني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني وكانوا متعاصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال الباقلاني بحر مغرق وابن فورك صل مطرق والاسفرائيني نار محرق انتهى قال ابن عساكر كان روح القدس نفث في روعه بحقيقة حالهم.
حلمه وكرم أخلاقه الذي لا يكاد يوجد في غير الأنبياء والمرسلين في معجم الأدباء مما وجدت في بعض الكتب من مكارم الأخلاق للصاحب أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر فجئ بقدح منه فلما أراد شربه قال له بعض خواصه لا تشربه فإنه مسموم فقال له وما الشاهد على صحة ذلك قال بان تجربه على من أعطاكه قال لا أستجيز ذلك ولا استحله قال فجربه على دجاجة قال إن التمثيل بالحيوان لا يجوز وأمر بصب ما في القدح وقال للغلام انصرف عني ولا تدخل داري بعدها وأقر رزقه عليه وقال لا ندفع اليقين بالشك والعقوبة بقطع الرزق نذالة أقول لو صدر هذا من نبي مرسل أو من أحد أولي العزم من الأنبياء لعد من فضائله ومناقبه فكيف من وزير متسلط والحق أن هذه مرتبة في الحلم ليس فوقها مرتبة اما ما عن الوزير ظهير الدين في كتابه ذيل تجارب الأمم من أن فخر الدولة لما انتظم له الأمر عمل هو والصاحب على أخذ علي بن كأمة وأعماله وعلما أنهما لا يقدران عليه فوافقا شرابيا كان له على سمه وعمل علي بن كأمة دعوة وسألهما الحضور عنده فوعداه ودخل خزانة الشراب يتخير الأشربة فطرح الشرابي السم في بعض ما ذاقه وعلم فخر الدولة خبره فتأخر عن الحضور قال الوزير ظهير الدين وليس العجب من فخر الدولة في سم الرجل كالعجب من الصاحب الذي سال بالأمس الاذن له في ملازمة داره والتوفر على أمر المعاد انتهى فان صح هذا فلا بد أن يكون الصاحب غير قادر على منع فخر الدولة عنه أما رضاه به واشتراكه فيه فلا يظن بالصاحب قال ياقوت وحدث أبو الحسن النحوي قال كان مكي المنشد قديم الصحبة والخدمة للصاحب فأساء إليه غير مرة والصاحب يتجاوز له فلما كثر ذلك منه أمر الصاحب بحبسه فحبس في دار الضرب وكانت في جواره فاتفق أن الصاحب صعد يوما سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي فاطلع فرآه في سوء الجحيم فضحك الصاحب وقال اخسئوا فيها ولا تكلمون ثم أمر باطلاق انتهى وفي كتاب محاسن أصفهان للمفضل بن سعد بن الحسين المافروخي حكي الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد كان في أيام صباه يختلف إلى مدارسه على باب دكان اسكاف وكان الإسكاف كلما مر به الصاحب تسفه عليه وأوسعه لعنا وسبا وتنقصا وثلبا وتعييرا بالاعتزال ورميا بالكفر والضلال وكان يتغافل عنه إلى أن وصل الصاحب إلى المرتبة التي ارتقى إليها فاتفق يوما أن نزل جندي دار الإسكاف ولم يجد الإسكاف وسيلة إلى ازعاجه عن داره الا رفع أمره إلى الصاحب لكنه تذكر ما سلف منه اليه فأحجم ثم قال في نفسه وما يدريه أني ذلك الرجل ورفع قصته إلى الصاحب فعرفه الصاحب ووقع إلى الأستاذ الرئيس أبي العباس الضبي بقضاء حاجته بما معناه أن لرافعها حقا لا يسع إغفالا وحرمة لا تقتضي اهمالا أوجبنا تسببه الينا بسبه إيانا انتهى.
معاقبته الساعي لأخذ المال ظلما في كتاب محاسن أصفهان للمافروخي قال انتهى الينا أنه رفع انسان إلى الدولة رقعة يتعهد فيها أنه يستوفي على المستغلات والأملاك بأصفهان خارجا عن المعاملات والحقوق ثلاثمائة ألف درهم يحصلها في خزانة فخر الدولة وكان فخر الدولة في ذلك الوقت محتاجا إلى الأموال لأنه يريد النهوض لمحاربة عساكر خراسان وفتح جرجان فوقع ذلك في روعه فلما دخل عليه ناوله القصة وقال يا أبا القاسم تدبر أمر هذا الرجل وقرره فبنا إلى مثل هذا المال مساس حاجة فقال الصاحب سمعا وطاعة لأمر شاهنشاه ثم انكفأ عن مجلسه إلى غيره واستحضر الرجل وقال له أنت صاحب هذه القصة والضامن استخراج هذا المال من الوجوه المذكورة فقال نعم أيد الله الصاحب فسلمه الصاحب إلى الحسين بن توراب أستاذ الدار وأمره بالاحتفاظ به إلى الغد ليفصل في أمره وأخذ خطوط المتفقهين والقضاة والمعدلين بانزال أشد العقاب بالساعي وركب من الغد إلى مجلس فخر الدولة وقال علي تحصيل هذا المال من وجهه من غير أن يتوجه إلى الرعية فيه عنت أو ينالهم مكروه واتبع ذلك من المواعظ والنصائح بما استنزله عن رأيه وعاقب الساعي وطلب ذلك المال من عشرة رجال مياسير لم يؤثر فيهم تأثيرا كثيرا انتهى.
كرمه وسخاؤه من أظهر صفات الصاحب الكرم وكثرة البذل واصطناع المعروف وقد اعتاد السخاء من صغره بما كانت أمه تعطيه وهو صغير كل يوم دينارا ودرهما ليتصدق بهما على أول فقير يلقاه في طريقه إلى المسجد الذي كان يدرس فيه كما مر ومعلوم أن الخير عادة والشر عادة وطبيعة السخاء تنمو وتقوى بالتعود عليه وفي معجم الأدباء قرأت في كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي قال كان الصاحب يراعي من ببغداد والحرمين من أهل الشرف وشيوخ الكتاب والشعراء وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء بما يحمله إليهم كل سنة مع الحاج على مقاديرهم ومنازلهم فكان ينفذ إلى بغداد من ذلك خمسة آلاف دينار في سنة تفرق على الفقهاء والأدباء وكان يحمل إلى أبي إسحاق الصابي خمسمائة دينار والي ألف درهم جبلية وفي معجم الأدباء عن الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي في تاريخه أنه كان ما يخرج لكافي الكفاة في السنة في وجوه البر والصدقات والمبرات وصلات الأشراف وأهل العلم والغرباء