ولم ينس أمير علي أثناء حياته الفقهية الطويلة ان يخص بكثير من نشاطه الفكري والسياسي أمنيته الكبرى التي جاشت بها نفسه منذ الساعة الأولى وقد رأيت أن هذه الأمنية هي العمل على انهاض الشعوب الاسلامية وترقيتها من الوجهتين المادية والمعنوية وذلك من طريق بث الدعوة الاسلامية والتعريف عن الاسلام في أوروبا وايجاد نوع من العطف على الشعوب الاسلامية يستند إلى تقدير سليم لتراثها الروحي والعقلي بل لقد شغلت هذه المهمة نشاط هذا المفكر الكبير حتى ملأت كل فراع حياته الحافلة.
وغدا اسمه علما لها في الغرب، وتفقه في الكلام والشريعة والأدب العربي وبرع في القانون والآداب الإنجليزية.
وكانت أقلام المستشرقين تعرض من الاسلام ومجتمعاته على أوروبا صورا مختلفة ولكنها غالبا تطبع بطابع العقلية الغريبة وكثيرا ما تشوبها نزعات من التحامل. ولكن أمير علي كان نموذجا فريدا للمفكر الاسلامي الكبير أشربت نفسه مبادئ الاسلام الحقة، واستنار مع ذلك بالروح العلمية الغربية، فكان لهذا المزيج السعيد أثره العميق في كل ما أخرج للغرب من آثار ترمي كلها إلى التعريف عن الاسلام وتراثه وشعوبه.
والواقع ان أمير علي وقف قلمه القوي الفياض على أداء هذه المهمة.
فلم يكتب الا في الاسلام واحكامه وفي سيرة النبي العربي ومناقبه وفي تاريخ الأمم الاسلامية وقد نزل هذا الميدان منذ فتوته ولم يترك التجوال فيه مدى حياته. فأخرج منذ سنة 1872 باكورة جهوده في رسالة نقدية في حياة النبي وتعاليمه أحرزت نجاحا لأسلوبها المتين ومنطقها القوي وفي سنة 1889 اخرج كتابه في مختصر تاريخ المسلمين وهو صورة بديعة لتاريخ الدول الاسلامية صيغت في بيان متين يفيض بلاغة ورقة، وفي مقدمته يقول: ان المسلمين أقرب الينا في العصر من جميع الأمم القديمة التي دفعت الفتح إلى قارات شاسعة وتركت من اعمالها في صحف التاريخ آثارا لا تمحى وأفاضت على عالم التفكير من اكتشافها وعلمها. وما زالت أوروبا الحديثة تهتدي بالوصية التي تركوها وبالتراث العقلي الذي خلفوه. فمن دواعي الأسف إذا ان يكون العلم بتاريخهم في الغرب قاصرا في الغالب على الأخصائيين بينما هو لا يكاد يعرف في الهند وهي بلد كان في عصر من العصور ميدان نفوذهم وحضارتهم.
ويجب لكي نلفت النظر ونستمد العطف ونثير الاهتمام ان نعني بأكثر من سرد مجرد الحروب والغزوات، خصوصا بالنسبة لشعب لم يجر التعريف به منذ الطفولة كما هو الشأن بالنسبة للرومان واليونان ورب كتاب يعنى بدرس ما استقته الحضارة المحدثة من حضارتهم يفيد في إزالة كثير من ضروب التحامل وشئ من المرارة التي خلفتها خصومات القرون.
في هذه العبارة يفصح أمير علي عن غايته بجلاء ومن يقرأ هذا المجلد الضخم الذي يصفه مؤلفه بالمختصر يدرك إلى أي حد وفق أمير علي في كتابة هذا التاريخ الذي هو أحدث وأدق وأمتن خلاصة كتبت في تاريخ الاسلام ومدنيته.
وقد رأيت أن أمير علي تخصص في دراسة القانون وتفقه في الشريعة الاسلامية وحاز مراتب القضاء إلى أرقاها، فكان طبيعيا ان تحرك الذهنية الفقهية قلمه. على أنه لم يغفل هنا أيضا مهمة التعريف عن الاسلام فعمد إلى شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية في كتاب ضخم ذي مجلدين واتبعه بمختصر الشريعة للطلبة فجاء مجهوده في هذا السبيل خدمة جليلة للقضاء الشرعي في الهند رفعت كثيرا من الغموض الذي كان يقترن بتدريس الشريعة وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز قلما يدركون روح التشريع الاسلامي وما زال كتاباه إلى اليوم حجة الطلاب والقضاة.
وفي سنة 1893 أخرج أمير علي أقوى كتبه وأعظمها وهو كتاب روح الاسلام أو حياة محمد وتعاليمه وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالدرس والتحليل لترجمة النبي عليه الصلاة والسلام وأصول الاسلام وفرائضه وفكرته في الألوهية وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية، وفكرته في البعث، وروحه القومية، والسياسة والعلم والأدب والفرق الاسلامية وفلاسفة الاسلام، وفيه يبلغ ذروة الافتنان والإجادة في دقة التصوير وسلامة التدليل، وروعة البيان، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى وأبدع فصول الكلام. أما ناحية الاسلام الأخلاقية فقد تناولها في كتاب آخر ظهر في نفس السنة هو آداب الاسلام الذي يعتبر تتمة لكتاب روح الاسلام.
ويجب ان نعرف أن أمير علي أخرج كتبه كلها باللغة الإنجليزية، وانه كتبها جميعا بأسلوب فصيح قوي أفسح له مكانة مرموقة في الآداب الإنجليزية ومن ثم كان لما أحرزته مؤلفاته من التقدير والذيوع أثر كبير في سبيل التعريف الحق بالاسلام والمجتمع الاسلامي وإزالة كثير من ضروب التحامل والادعاء التي كانت تصيب هيبة الاسلام والمسلمين في الغرب.
ولم ينس أمير علي أن يطرق باب السياسة ليسعى إلى تحقيق نفس الأمنية التي سعى إليها بقلمه. وكان يعمل أثناء الأعوام الطويلة التي سلخها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له هي تقدم مواطنيه مسلمي الهند، وقد بذل في هذا السبيل جهودا شتى وكان اعتداله وحزمه وكفايته تمهد سبيل الترحيب بارائه. وكان لمساعيه ودعوته في هذا السبيل نصيبها من الفوز أيام اللورد مورلي حيث رأت الحكومة البريطانية ان تدخل طائفة كبير من الاصطلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة الهند تحقيقا لأماني المعتدلين وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت يومئذ.
على أن أمير علي كان في جهوده السياسية بالنسبة للاسلام مسلما قبل كل شئ ففي جميع الخطوب التي كانت تدهم الاسلام أو الأمم الاسلامية كان صوته يرتفع في بريطانيا وأوروبا، وكان لهذا الصوت أثره خصوصا بعد أن تبوأ أمير علي مكانته في المجلس المخصوص ونال ما ناله من الاحترام والنفوذ في دوائر لندن السياسية.
ومنذ الحرب الطرابلسية والحرب البلقانية كان أمير علي يعمل بكل ما أوتي من بلاغة ونفوذ ليثير العطف على تركيا وكان له قسط محمود في الدعوة إلى جمعية الهلال الأحمر ولكن جاء دخول تركيا في الحرب الكبرى إلى جانب ألمانيا ضربة قوية لآماله. وكان يعتبر انسلاخ تركيا عن الحلفاء نتيجة مباشرة لخطأ السياسة البريطانية فلما انتهت الحرب عاد إلى نشاطه ليحارب شروط الصلح التي فرضت على تركيا. وكان شديد الوطأة في حملاته يومئذ على سياسة بريطانيا والحلفاء في الشرق الأدنى حتى أن السير فالانتين تشيرول الصحفي الانكليزي الأشهر كثيرا ما احتج على هذه الدعوات في جريدة التيمس وأنكر على قاض في مجلس الملك المخصوص ان يعمل هذا النحو لإثارة الهياج بين المسلمين في انحاء الإمبراطورية ولكن أمير علي لم يعبأ بهذا