ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولما احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟
فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟! نشؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده من ذهنك. وما زال يعد علي قدرته التي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه (1).
أقول: ابن المقفع: هو أبو الحسن عبد الله بن المقفع الفارسي، الفاضل المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب، كان مجوسيا أسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور بحسب الظاهر، وكان كابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى على طريق الزندقة، وهو الذي عرب كتاب " كليلة ودمنة " وصنف الدرة اليتيمة، وكان كاتبا لعيسى. قتله سفيان بن معاوية عامل المنصور بالبصرة في سنة 143 بأمر المنصور.
وكيفية قتله أنه كان سفيان عليه ساخطا لأنه قال يوما له: يا بن المغتلمة، فدخل ابن المقفع يوما على سفيان وعنده غلمانه وتنور نار يسجر، فقال سفيان:
أتذكر يوما قلت لي كذا وكذا؟ أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد. ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا وألقاها وهو ينظر إليها، حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق التنور عليه. ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام): رب عالم قد قتله جهله وعلمه معه لم ينفعه.