وعن راغب الأصفهاني كلام حسن في هذا المقام، قال: من كان قصده الوصول إلى جوار الله والتوجه نحوه، كما قال تعالى: * (ففروا إلى الله) *، وكما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: سافروا تغنموا، فحقه أن يجعل أنواع العلوم كزاد موضوع في منازل السفر فيتناول في كل منزل قدر البلغة، ولا يعرج على تفصية واستغراق ما فيه، فإنه لو قضى الإنسان جميع عمره في فن واحد لم يدرك قعره ولم يسبر غوره وقد نبهنا الباري تعالى على ذلك بقوله: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) *. وقال بعض الحكماء في ذلك: " إن الشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كانت ثمرتها يانعة ".
ويجب أن لا يخوض في فن حتى يتناول من الفن الذي قبله بلغته، ويقضي منه حاجته. فازدحام العلم في السمع مضلة للفهم، وعليه قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) * أي لا يجاوزون فنا حتى يحكموه علما وعملا.
ويجب أن يقدم الأهم فالأهم من غير إخلال بالترتيب، وكثير من الناس ثكلوا الوصول بتركهم الأصول. وحق الطالب أن يكون قصده من كل علم يتحراه التبلغ به إلى ما فوقه حتى يبلغ به النهاية، والنهاية هي معرفة الله سبحانه، فالعلوم كلها خدم لها وهي حرة.
وروي أنه رأى صورة حكيمين من الحكماء في بعض مساجدهم وفي يد أحدهما رقعة فيها: إن أحسنت كل شئ فلا تظنن أنك أحسنت شيئا حتى تعرف الله، وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء.
وفي يد الآخر: كنت قبل أن عرفت الله أشرب وأظمأ حتى إذا عرفته رويت بلا شرب، بل قد قال تعالى، ما قد أشار به إلى ما هو أبلغ من حكمة كل حكيم: * (قل الله ثم ذرهم) * أي أعرفه حق المعرفة. ولم يقصد بذلك أن يقول ذلك قولا باللسان اللحمي، فذلك قليل الغنى ما لم يكن عن طرية خالصة ومعرفة حقيقية، وعلى ذلك قال عليه وآله الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة. إنتهى.