أدركه ثانيا فظهر له أنه هو الذي كان أدركه أولا، ومن هاهنا سمي أهل الحقيقة بأصحاب العرفان، لأن خلق الأرواح قبل الأبدان كما ورد في الحديث، وهي كانت مطلعة على بعض الإشراقات الشهودية مقرة لمبدعها بالربوبية كما قال سبحانه: * (ألست بربكم قالوا بلى) * لكنها لإلفها بالأبدان الظلمانية، وانغمارها في الغواشي الهيولائية، ذهلت عن مولاها ومبدعها، فإذا تخلصت بالرياضة من أسر دار الغرور، وترقت بالمجاهدة عن الالتفاف إلى عالم الزور، تجدد عهدها القديم الذي كاد أن يندرس بتمادي الأعصار والدهور، وحصل لها الإدراك مرة ثانية وهي المعرفة التي هي نور على نور (1).
أمالي الطوسي: عن أبي كهمس، عن مولانا أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أي الأعمال هو أفضل بعد المعرفة؟ قال: ما من شئ بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة، ولا بعد المعرفة والصلاة شئ يعدل الزكاة، ولا بعد ذلك شئ يعدل الصوم، ولا بعد ذلك شئ يعدل الحج، وفاتحة ذلك كله معرفتنا، وخاتمته معرفتنا، ولا شئ بعد ذلك كبر الإخوان، والمواسات ببذل الدينار والدرهم، فإنهما حجران ممسوخان، بهما امتحن الله خلقه بعد الذي عددت لك، وما رأيت شيئا أسرع غنا، ولا أنفى للفقر من إدمان حج هذا البيت، وصلاة فريضة تعدل عند الله الف حجة وألف عمرة مبرورات متقبلات، ولحجة عنده خير من بيت مملو ذهبا، لا بل خير من ملء الدنيا ذهبا وفضة ينفقه في سبيل الله عز وجل. والذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق بشيرا ونذيرا لقضاء حاجة امرئ مسلم، وتنفيس كربته أفضل من حجة وطواف، وحجة وطواف حتى عقد عشرة، ثم خلا يده وقال: اتقوا الله ولا تملوا من الخير، ولا تكسلوا، فإن الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) غنيان عنكم وعن أعمالكم، وأنتم الفقراء إلى الله عز وجل، وإنما أراد الله عز وجل بلطفه سببا يدخلكم به الجنة (2).
وبسند آخر عن زريق، عنه (عليه السلام) مثله (3).