والسر في ذلك: هو ما أشير إليه آنفا من أن الفقه علم مبني على براهين جلها نقلية من الكتاب والسنة، والكتاب وإن كان قطعي الصدور إلا أن ما يرجع منه إلى المسائل الفقهية قليل جدا كما أن نطاق هذا المقدار القليل ليس ناصا بل أقصاه الظهور المحتمل للخلاف، والمستفاد منه غالبا هو التشريع لا التبيين، وعلى فرض التبيين ليس غالبا إلا العموم أو الاطلاق إن لم يكن مجملا أو مهملا ومن المعلوم: تخصيص غير واحد من عموماته وكذا تقييد كثير من مطلقاته، كما أن من الواضح عدم جواز التمسك بشئ من ذلك قبل الفحص عن المخصص أو المقيد وما إلى ذلك من القرائن الدالة على إرادة خلاف الظاهر، فلا يستفاد من القرآن الكريم إلا فروع قلائل.
وأما السنة: فالخبر المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرينة القطعية منها وإن كان مفيدا للقطع إن كان من حيث الدلالة نصا أو مفيدا للظن المعتبر عند الكل إن لم يكن كذلك بل كان ظاهرا، إلا أنه قليل جدا أيضا بحيث يمكن دعوى خلو أكثر الفروع الفقهية عن ذلك.
فلم يبق من السنة إلا الخبر الواحد الظني الواجد لشرائط الحجية مما يرجع إلى السند أو المتن. وهذا الدليل هو الأساس والأصل للفقه الإسلامي بحيث يدور معه حيثما دار، ولا يمكن الاستغناء عن الخبر الواحد بسائر الأدلة كالعقل أو الاجماع أو الشهرة أو السيرة أو نحوها من الظنون الخاصة، لأن منها ما يتوقف اعتباره على حجية الخبر الواحد كالاجماع المنقول به، فلا مجال للاعتماد عليه مع فرض عدم حجية خبر الواحد. ومنها ما لا يتوقف اعتباره عليها، فيمكن الاستناد إليه مع كونه مفيدا للقطع أو الوثوق، لكنه أيضا قليل جدا لا يغني الفقيه عن الخبر الواحد. وأما إذا لم يكن مفيدا للقطع والوثوق فهو على فرض اعتباره دليل لبي يؤخذ بالمتيقن منه ولا ظهور لفظي له حتى يصلح لاستنباط المسائل الكثيرة منه فلا يغني عن الخبر الواحد أيضا، كما لا يخفى.