والتلاميذ الأذكياء المجدين والمكتبات الجمة التي فيها كتب قيمة وما إلى ذلك من عناصر الرقي والتكامل في تطور العلم وترقيه، إلا أن ذلك كله عوامل خارجية لا بد من فرضها منحفظة بحالها ثم يبحث عما هو العامل الهام في التطور مع انحفاظ تلك العوامل ونحوها بحالها.
والذي ينبغي أن يقال: هو أن العلم إذا كان مبنيا علي صرح ممرد من المباني الراقية والبراهين الساطعة يرى ما لا يراه غيره وينال ما لا تصل إليه أيدي غيره مما ليس له مبنى متين ولا برهان رصين، إذا العلم إنما يغتذي بالمبنى وينمو بالبرهان فيدور مدارهما حيث دارا.
ومن المعلوم: أن الفقه حكمة عملية تعتمد على النقل، وإن كان للعقل فيه سهم وافر أيضا إلا أن تأثيره إنما هو في حوزة النقل فقط، وأما العقل الصراح القائم بنفسه بحيث لا تستند إلى مقدمة نقلية أصلا فإنما هو في العلوم العقلية كالفلسفة الإلهية والعلم الرياضي... فأساس الفقه هو النقل والاعتماد عليه والاستناد إليه والاستنباط منه والثقة به والدور معه والخوض فيه والسعي له وإن كان ذلك كله بالعقل، ولكن بحيث ليس له إلا الادراك، وأما المواد المدركة فكلها أو جلها منقولة من الشرع الأنور.
فكل عصر قوي أساس النقل واستحكم بنيانه المرصوص رصن فيه الاستنباط واشتد الاجتهاد وكثرت الفروع وأينعت ثمار الحوزات وما إلى ذلك من البركات كعصر الشيخ الطوسي - قدس سره - من القدماء، والعلامة الحلي - رحمة الله عليه - من المتأخرين، وكل عصر ضعف أساس النقل واستوهن بنيانه صعب الاستنباط وركد الاجتهاد كعصر السيد المرتضى - قدس سره - مع كونه قريبا من عصر الشيخ - رحمه الله - ومتقدما عليه بيسير، وهكذا عصر ابن زهرة وابن إدريس - رحمهما الله - مع كونه بعد عصر الشيخ - رحمه الله - والمتوقع أن يكون الاستنباط فيه أسهل والاجتهاد أكمل من العصر المتقدم.