كان في عنفوان شبابه دعته نفسه إلى أن يدخل ارض العراق ويجثو بين يدي العلماء ويقتبس منهم العلوم فتوجه إليها راجلا مع الحاج واقام بها ثماني سنين وأجازها فطوف البلدان المتاخمة لها ولقي الكبار والأعيان وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وحصل من عنده علوما جمة وتعمق في علم الفلسفة وهجم على اسرار علم التنجيم والهيئة وبرز في علم الطب والطبائع وبحث عن أصول الدين أتم بحث وابعد استقصاء حتى قاده ذلك إلى الحيرة وزل به عن النهج الأوضح فتارة كان يطلب الامام ومرة كان يسند الامر إلى النجوم أو الاحكام ثم إنه لما كتبه الله في الأزل من السعداء وحكم بأنه لا يتركه يتبلغ في ظلمات الأشقياء بصره أرشد الطرق وهداه لاقوم السبل فاستمسك بعروة من الدين وثيقة وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة. ثم لما قضى وطره من العراق وصار في كل فن من فنون العلوم قدوة وفي كل نوع من أنواعه اماما قصد العود إلى بلده فتوجه إليها على طريق هراة حتى وصل إلى بلخ وانتشر بها علمه قال أخبرني أبو محمد الحسن بن الوزيري وكان لقي أبا زيد وتتلمذ له قال كان أبو زيد ضابطا لنفسه ذا وقار وحسن استبصار قويم اللسان جميل البيان متثبتا نزر الشعر قليل البديهة واسع الكلام في الوسائل والتأليفات إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة وكان قليل المناظرة حسن العبارة وكان يتنزه عما يقال في القرآن الا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل دون المشكل من الأقاويل وحسبك ما ألفه من كتاب نظم القرآن الذي لا يفوقه في هذا الباب تأليف، قرأت في كتاب البصائر لأبي حيان الفارسي هو المشهور بالتوحيدي من ساكني بغداد قال قال أبو حامد القاضي لم أر كتابا في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي وكان فاضلا يذهب في رأي الفلاسفة لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع واخرج سرائره وسماه نظم القرآن ولم يأت على جميع المعاني فيه. قال سمعت بعض أهل الأدب يقول: اتفق أهل صناعة الكلام ان متكملي العالم ثلاثة الجاحظ وعلي بن عبيدة اللطفي وأبو زيد البلخي فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ ومنهم من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد وقال أبو حيان في كتاب النظائر لعله البصائر: أبو زيد البلخي يقال له بالعراق جاحظ خراسان، قال: وقرأت بخط أبي الحسن الحديثي على ظهر كتاب كمال الدين لأبي زيد قال أبو بكر الفقيه ما صنف في الاسلام كتاب انفع للمسلمين من كتاب البحث عن التأويلات صنفه أبو زيد البلخي وهذا الكتاب يعني كتاب كمال الدين، وذكره ابن النديم مع الكتاب والخطباء والمترسلين والبلغاء فقال: أبو زيد البلخي واسمه أحمد بن سهل كان فاضلا في سائر العلوم القديمة والحديثة تلا في تصانيفه وتأليفه طريقة الفلاسفة الا انه باهل الأدب أشبه واليهم أقرب فلذلك رتبته في هذا الموضع من الكتاب. حكي عن أبي زيد أنه قال: كان الحسين بن علي المروزي وأخوه صعلوك يجريان علي صلات معلومة دائمة فلما أمليت كتابي في البحث عن كيفية التأويلات قطعاها عني وكان لأبي علي الجيهاني وزير نصر بن أحمد جواري يدرها علي فلما أمليت كتابي القرابين والذبائح حرمنيها وكان الحسين قرمطيا وكان الجيهاني ثنويا وكان يرمي أبو زيد بالالحاد فحكي عن البلخي أنه قال هذا الرجل مظلوم يعني أبا زيد وهو موحد انا أعرف به من غيري وانا أنشأنا معا وانما آت من المنطق وقد قرأنا المنطق وما ألحدنا بحمد الله انتهى.
مذهبه قد سمعت قول ابن النديم أنه كان يرمي بالالحاد وتبرئة البلخي له من ذلك وقوله انه آت من المنطق وقد كان بعض الجامدين يرون تعلم المنطق حراما حتى قال صاحب السلم وهو يذكر الخلاف في تعلم علم المنطق:
فابن الصلاح والنواوي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة الواضحة الصحيحة جوازه لسالم القريحة فيوشك أن تكون نسبة الالحاد اليه لذلك كما يومي اليه كلام البلخي المتقدم وقد سمعت قول أبي سهل أن الله تعالى بصره أرشد الطرق وهداه لأقوم السبل فاستمسك بعروة من الدين وثيقة وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة وهذا الكلام من أبي سهل ينفي عنه تهمة الالحاد مع أنها من أصلها واهية كما ذكرنا. ثم قال وكان حسن الاعتقاد ومن حسن اعتقاده انه كان لا يثبت من علم النجوم الاحكام بل كان يثبت ما يدل عليه الحسبان ولقد جرى ذكره في مجلس الامام أبي بكر أحمد بن محمد بن العباس البزار وهو الامام ببلخ والمفتي بها فاثنى عليه خيرا وقال أنه كان قويم المذهب حسن الاعتقاد لم يقرف بشئ من ديانته كما ينسب اليه من نسبته إلى علم الفلسفة وكل من حضره من الفضلاء والأماثل اثنى عليه ونسبه إلى الاستقامة والاستواء وأنه لم يعثر له مع ما له من المصنفات الجمة على كلمة تدل على قدح في عقيدته انتهى ومن المظنون تشيعه لما مر من أنه تارة كان يطلب الامام ولما حكاه ياقوت عن كتاب أبي سهل الآنف الذكر قال:
ذكر أبو الحسن الحديثي قال: كان أبو بكر البكري فاضلا خليعا لا يبالي ما قال وكان يحتمل عنه لسنه قال اذكر إذ كنا عنده وقد قدمت المائدة وأبو زيد يصلي وكان حسن الصلاة فضجر البكري من طول صلاته فالتفت إلى رجل من أهل العلم يقال له أبو محمد الخجندي فقال: يا أبا محمد ريح الإمامة بعد في رأس أبي زيد فخفف أبو زيد الصلاة وهما يضحكان قال أبو الحسن فلم أدر ما ذلك حتى سالت لا أدري الخجندي أو أبا بكر الدمشقي، فقال أحدهما: اعلم أن أبا زيد أول امره كان خرج في طلب الامام إلى العراق إذ كان قد تقلد مذهب الإمامية فعيره البكري بذلك.
ومما يرشد إلى تشيعه ما حكاه ياقوت في معجم الأدباء عن المرزباني أنه قال : أحمد بن سهل البلخي محدث معتمد وهو القائل يرثي الحسن بن الحسين العلوي وقد توفي ببلخ:
إن المنية رامتنا بأسهمها * فأوقعت سهمها المسموم بالحسن أبو محمد الأعلى فغادره * تحت الصفيح مع الأموات في قرن يا قبر ان الذي ضمنت جثته * من عصبة سادة ليسوا ذوي افن محمد وعلي ثم زوجته * ثم الحسين ابنه والمرتضى الحسن صلى الاله عليهم والملائكة * المقربون طوال الدهر والزمن قال ياقوت: هكذا قال المرزباني ولا أدري أيريد صاحبنا هذا أو غيره فإنه لم يذكره بأكثر مما كتبناه انتهى ولكنه حكى عن كتاب أبي سهل الآنف الذكر ان الوزيري قال كان يتحرج عن تفضيل الصحابة بعضهم على بعض وعن مفاخرة العربي والعجمي وعما يقال في القرآن الا الظاهر المستفيض ويقول: ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلا ولا يتضمن حاصلا لأن الله تعالى يقول في معنى القرآن أنزلناه قرآنا عربيا قيما غير ذي عوج الآية وأما معنى الصحابة وتفضيل بعضهم على بعض فقوله ع: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وكذلك العربي