وقد قرر في محله: أن جميع أنحاء المعاملات والحقوق الدارجة عند العقلاء محكمة ومرضية للشارع عند عدم الردع، فبيع المنابذة ونحوه ممنوع، للردع، وأما ما عدا ذلك من الأمور المعاملية الدارجة، فلا.
ولا خفاء على الغائر في قوانينهم المتبوعة: أن السابق إلى موضع خاص من الأماكن النزهة التي يكون الناس فيها شرعا سواء هو أولى به من غيره. وكذا في الشرايع المعدة لأخذ المياه من الشطوط العظيمة والأنهار الكبيرة، حيث إن السابق إلى موضع خاص من شريعة مخصوصة يكون أخذ الماء فيها أسهل يكون أولى به من غيره، وليس لغيره أن يزاحمه ويدفعه، وإلا عد ظالما لديهم ومذموما عندهم، ولكن لا يترتب على هذا الدفع عدا التقبيح والمذمة، وأما مطالبة ما يعادل منفعة ذاك الموضع أو هذه الشريعة فلا، إذ لا يورث السبق إلا أولوية الانتفاع، وأما تملك المنفعة فلا، ولذلك لا يجوز التعويض والمبادلة بالاختيار، ولا مطالبة ما يعادل المنفعة الفائتة بالدفع والاضطرار، إذ ليس للسابق حق مالي متعلق بالعين، فتلك العين باقية على حالها: من اشتراك الجميع فيها وصلوح انتفاعهم منها بلا تلون بلون خاص أصلا، فهي بعد السبق كما هي قبله، ولم يتخلل إلا حق أولوية الانتفاع، من دون أن تصير منفعتها ملكا للسابق مثلا.
نعم: لما أوجبت أولوية الانتفاع للسابق أن يكون دفعه ظلما قبيحا يمكن إرضاءه بمال أو غيره حتى يهجر ذاك الموضع معرضا عنه ليصير معدا لأن يسبق إليه غيره، فهذا المال المبذول عوض لرفع اليد صونا عن الاقتحام في القبيح، لا أنه عوض لمنفعة ذاك الموضع، وبينهما فرق بين.
هذا محصل ما أسسته الغريزة، وأشير سالفا إلى عدم اختراع الشرع في هذا الباب شيئا، بل أمضى ما يكون متبوعا لدى العقلاء واستقرت عليه سيرتهم، فحينئذ لا يكون الموضع الخاص من المسجد متعلقا لحق مالي بحيث تكون منفعته ملكا للسابق إليه، فالعين مصونة عن تعلق الحق إلا حق (أولوية الانتفاع) عند