وحشة الليل متخشعون، كأنهم شنان بوالي، قد أخلصوا لله أعمالا سرا وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم، فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامت العيون، وهدأت الأصوات، وسكنت الحركات، من الطير في الوكور، وقد نهنههم هول يوم القيامة بالوعيد عن الرقاد كما قال سبحانه: * (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) * فاستيقظوا لها فزعين، وقاموا إلى صلواتهم معولين، باكين تارة وأخرى مسبحين، يبكون في محاريبهم ويرنون، يصطفون ليلة مظلمة بهماء يبكون.
فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياما على أطرافهم منحنية [ظهورهم]، يتلون أجزاء القرآن لصلواتهم قد اشتدت إعوالهم ونحيبهم وزفيرهم، إذا زفروا خلت النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفدت في أعناقهم، فلو رأيتهم في نهارهم إذا لرأيت قوما يمشون على الأرض هونا، ويقولون للناس حسنا * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *، * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *، قد قيدوا أقدامهم من التهمات، وأبكموا ألسنتهم أن يتكلموا في أعراض الناس، وسجموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض، وكحلوا أبصارهم بغض البصر عن المعاصي، وانتحوا دار السلام التي من دخلها كان آمنا من الريب والأحزان.
فلعلك يا أحنف شغلك نظرك في وجه واحدة تبدي الأسقام بغاضرة وجهها، ودار قد اشتغلت بنفس روأتها، وستور قد علقتها، والريح والآجام موكلة بثمرها، وليست دارك هذه دار البقاء فأحمتك الدار التي خلقها سبحانه من لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها [وغرس فيها أشجارها، وظل عليها بالنضج من أثمارها] وكبسها بالعوابق من حورها، ثم أسكنها أولياءه وأهل طاعته.
فلو رأيتهم يا أحنف وقد قدموا على زيادات ربهم سبحانه، فإذا ضربت جنائبهم، صوتت رواحلهم بأصوات لم يسمع السامعون بأحسن منها، وأظلتهم غمامة فأمطرت عليهم المسك والرادن وصهلت خيولها بين أغراس تلك الجنان،