بعده: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * حيث يدل أولا: على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانيا: أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا، كما في قوله:
* (يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * الكهف: 49، وثالثا: أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء، ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى:
* (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) * ق: 22.
ويظهر من قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * آل عمران: 30، أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا، فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عيانا، ولا حجة كالعيان.
وبذلك يظهر أن المراد بالطائر والكتاب في الآية أمر واحد وهو العمل الذي يعمله الإنسان، غير أنه سبحانه قال: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا) * ففرق الكتاب عن الطائر ولم يقل:
* (ونخرجه) * لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتابا يوم القيامة وهو قبل ذلك طائر وليس بكتاب، أو يوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.
وبالجملة: في قوله: * (ونخرج له) * إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان، محجوب وراء حجاب الغفلة، وإنما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، وهو المعني بقوله: * (يلقاه منشورا) *.
وفي ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه، فيكون تأكيدا لقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) *، لأن المحصل أن الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة: أما أولا فلأنه لازم له لا يفارقه، وأما ثانيا فلأنه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا.
قوله تعالى: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * أي يقال له: اقرأ كتابك... إلخ.
وقوله: * (كفى بنفسك) * الباء فيه زائدة للتأكيد، وأصله كفت نفسك، وإنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير والتأنيث، وربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك.
وفي الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولو كان هو المجرم نفسه، وكيف لا؟! وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى: * (لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) * التحريم: 7.
وقد اتضح مما أوردناه - في وجه اتصال قوله:
* (ويدع الإنسان بالشر) * الآية بما قبله - وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره - إلى قوله: - حسيبا) *.
فمحصل معنى الآيات - والسياق سياق التوبيخ واللوم - أن الله سبحانه أنزل القرآن