لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم، بل لينعم عليهم بما استحقوه، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نسميها بالدين، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان.
فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها، فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج، فيطبق الإنسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.
فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.
وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا، أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس، فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع، فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والالتزام بصحيحها، بخلاف النظر في الآيات الآفاقية، فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها وتحليتها بالفضائل الروحية، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر.
وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس، وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها، فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله وتكثر فيه