لا تتحقق من رأس.
فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد والإبهام، وتعين لها أحد الطرفين، وهو التحقق أو عدم التحقق، إن فرض انعدام شئ مما يتوقف عليه وجودها، ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.
والاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية، فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع، فإذا اجتمعت الأسباب والأوضاع المقتضية وأتممناها بالإرادة والإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع والصدور عينا له أحد الجانبين، فتعين له الوقوع.
وكذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية، كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو لذاك، فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام والتردد وتعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.
ثم توسع فيه ثانيا، فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب الفعل، فقول الحكم: إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما، وقول المخبر: إن كذا كذا فصل وتعيين، وهذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.
ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهي فعله جرى فيها الاعتباران بعينهما، فهي ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع، فإذا شاء الله وقوعها وأراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها، إلا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى وفصلا لها من الجانب الآخر وقطعا للإبهام، ويسمى قضاء من الله.
ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بأمر وفصله القول فيه قضاء منه.
وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: * (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (1)، وقال: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) * (2)، وقال: * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) * (3)، وقال: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) * (4) إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.
ومن الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (5) وقوله: * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * (6)، وقوله: * (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) * (7)، وما في الآية