في الجملة أنه لم يخلق الخلق عبثا، وإنما خلقهم للحكمة والمصلحة، ودل على ذلك بالعقل والسمع، فقال سبحانه: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) * (1) وقال:
* (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (2) وقال: * (إنا كل شئ خلقناه بقدر) * (3) يعني بحق ووضعناه في موضعه، وقال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (4) وقال فيما تعبد: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) * (5).
وقد يصح أن يكون تعالى خلق حيوانا بعينه لعلمه تعالى بأنه يؤمن عند خلقه كفار، أو يتوب عند ذلك فساق، أو ينتفع به مؤمنون، أو يتعظ به ظالمون، أو ينتفع المخلوق نفسه بذلك، أو يكون عبرة لواحد في الأرض أو في السماء، وذلك يغيب عنا، وإن قطعنا في الجملة أن جميع ما صنع الله تعالى إنما صنعه لأغراض حكمية، ولم يصنعه عبثا، وكذلك يجوز أن يكون تعبدنا بالصلاة لأنها تقربنا من طاعته وتبعدنا عن معصيته، وتكون العبادة بها لطفا لكافة المتعبدين بها أو لبعضهم.
فلما خفيت هذه الوجوه وكانت مستورة عنا ولم يقع دليل على التفصيل فيها - وإن كان العلم بأنها حكمة في الجملة - كان النهي عن الكلام في معنى القضاء والقدر إنما هو عن طلب علل لها مفصلة فلم يكن نهيا عن الكلام في معنى القضاء والقدر.
هذا إن سلمت الأخبار التي رواها أبو جعفر رحمه الله، فأما إن بطلت أو اختل سندها فقد سقط عنا عهدة الكلام فيها، والحديث الذي رواه عن زرارة حديث صحيح من بين ما روى، والمعنى فيه ظاهر ليس به على العقلاء خفاء، وهو مؤيد للقول بالعدل، ألا ترى إلى ما رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) من قوله: إذا حشر الله تعالى الخلائق سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم.
وقد نطق القرآن بأن الخلق مسؤولون عن أعمالهم " انتهى كلامه (6) رحمه الله.
وأقول (7): من تفكر في الشبهة الواردة على اختيار العباد وفروع مسألة الجبر والاختيار والقضاء والقدر علم سر نهي المعصوم عن التفكر فيها، فإنه قل من أمعن النظر فيها ولم يزل قدمه إلا من عصمه الله بفضله (8).
كلام في القضاء في فصول:
1 - في تحصيل معناه وتحديده: إنا نجد الحوادث الخارجية والأمور الكونية - بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها - على إحدى حالتين، فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه، بل يتردد أمرها بين أن تتحقق وأن