بأخلاق الله تعالى ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة، ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية، فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذة على ما صورته له خياله، وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم. فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية، وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده، لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها، ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة، فكان أيضا حسرة، فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره، وفيما لم يجده متقلبا بين الآلام والحسرات، فهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده.
وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادي متحول متغير، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال، فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته، وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معا كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله وموجبة للإخلاد إلى الأرض - فهو أيضا من سعادته ونعمت السعادة.
وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته، بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا.
وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له، والقرآن يسمي سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به، قال تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) * آل عمران: 196، 197.
وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا، لكن وجه النظر مختلف، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح، وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة، قال تعالى: * (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) * الفجر: 6، 14.
والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والإدراك، فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا، كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة، والإنسان المولع بالمادة لابد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة، وهو كذلك،