فقر، وإن كان القياس يقتضيه، وأصل الفقير هو المكسور الفقار، انتهى (1).
وهذا أحسن ما قيل في هذا المقام، ومنهم من حمل سواد الوجه على المدح، أي إنه كالخال الذي على وجه المحبوب فإنه يزينه ولا يشينه، وقيل: المراد بالوجه ذات الممكن، ومن الفقر احتياجه في وجوده وسائر كمالاته إلى الغير، وكون ذلك الاحتياج سواد وجهه عبارة عن لزومه لذاته بحيث لا ينفك كما لا ينفك السواد عن محله، ولا يخفى بعدهما، والأظهر حمله مع صحته على الفقر المذموم كما مر.
وقال الغزالي في شرح هذا الخبر: إذ الفقر مع الاضطرار إلى ما لابد منه قارب أن يوقع في الكفر، لأنه يحمل على حسد الأغنياء والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل لهم بما يدنس به عرضه وينثلم به دينه، وعلى عدم الرضا بالقضاء وتسخط الرزق، وذلك إن لم يكن كفرا فهو جار إليه، ولذلك استعاذ المصطفى من الفقر.
وقال بعضهم: لأن أجمع عندي أربعين ألف دينار حتى أموت عنها أحب إلي من فقر يوم وذل في سؤال الناس، ووالله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت ببلية من فقر أو مرض، فلعلي أكفر ولا أشعر، فلذلك قال: " كاد الفقر أن يكون كفرا " لأنه يحمل المرء على كل صعب وذلول، وربما يؤديه إلى الاعتراض على الله والتصرف في ملكه، والفقر نعمة من الله داع إلى الإنابة والالتجاء إليه والطلب منه، وهو حلية الأنبياء وزينة الأولياء وزي الصلحاء، ومن ثم ورد خبر: " إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين "، فهو نعمة جليلة بيد أنه مؤلم شديد التحمل.
قال الغزالي: هذا الحديث ثناء على المال، ولا تقف على وجه الجمع بين المدح والذم إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وفوائده وغوائله، حتى ينكشف لك أنه خير من وجه شر من وجه، وليس بخير محض ولا بشر محض، بل هو سبب للأمرين معا: يمدح مرة ويذم مرة، والبصير المميز يدرك أن الممدوح منه غير المذموم.
وقال بعض أصحابنا في الدعاء: نعوذ بك من الفقر والقلة، قيل: الفقر المستعاذ منه إنما هو فقر النفس الذي يفضي بصاحبه إلى كفران نعم الله ونسيان ذكره، ويدعوه إلى سد الخلة بما يتدنس به عرضه ويثلم به دينه، والقلة تحمل على قلة الصبر أو قلة العدد. وفي الخبر أنه (صلى الله عليه وآله) تعوذ من الفقر، وقال: " الفقر فخري وبه أفتخر على سائر الأنبياء ". وقد جمع بين القولين بأن الفقر الذي تعوذ منه (صلى الله عليه وآله) الفقر إلى الناس والذي دون الكفاف، والذي افتخر به الفقر إلى الله تعالى، وإنما كان هذا فخرا له على سائر الأنبياء مع مشاركتهم له فيه، لأن توحيده واتصاله بالحضرة الإلهية وانقطاعه إليه كان في الدرجة التي لم يكن لأحد مثلها في العلو، ففقره إليه كان أتم وأكمل من فقر سائر الأنبياء.
وقال الكرماني في شرح البخاري في قوله (صلى الله عليه وآله): " أعوذ بك من الفقر ": استدل به على تفضيل الغنى، وبقوله تعالى: * (إن ترك خيرا) *