معانيها - لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها، أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك.
وأما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: * (والله بكل شئ عليم) * (1)، وقال تعالى: * (وربك على كل شئ حفيظ) * (2)، وقال تعالى: * (والله بما تعملون خبير) * (3)، وقال تعالى: * (هو العليم الحكيم) * (4)، وقال تعالى: * (انه على كل شئ شهيد) * (5).
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، وبأخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة والحب والبغض والرجاء والخوف ونحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، وفي العمليات والأمور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، وهذا هو العقل.
لكن ربما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب.
وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (6) وقال تعالى: * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في