يجلس للحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم وسرح لحيته وصلى ركعتين قعد على منصته بخشوع ووقار ومنع الناس ان يرفعوا أصواتهم وأمر ان يبخر المجلس بالعود من أوله إلى فراغه تعظيما للحديث حتى بلغ من تعظيمه له انه لدغته عقرب ست عشرة مرة وهو يحدث فصار يصفر ويتلوى حتى تم المجلس ولم يقطع كلامه أدبا مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا أكثر أصحابه سؤاله كفهم وقال حسبكم من أكثر فقد أخطأ ومن أحب ان يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار ثم يجيب وقد أدركناهم إذا سئل أحدهم فكأن الموت أشرف عليه وكان رضي الله تعالى عنه يقول بلغني ان العلماء يسئلون يوم القيامة عما يسئل عنه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكأن يقول ليس العلم بكثرة الرواية إنما هو نور يضعه الله تعالى في القلب. وقيل له ما تقول في طلب العلم فقال حسن جميل ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسى فالزمه وكان رضي الله تعالى عنه يقول لا ينبغي للعالم ان يتكلم بالعلم عند من لا يطيعه فإنه ذلك وإهانة للعالم (ومن وصيته) للامام الشافعي رضي الله تعالى عنهما عند فراقه له ان قال له لا تسكن الريف فيضيع علمك واكتسب الدرهم ولا تكن عالة على الناس واتخذ لك ذا جاه ظهرا لئلا تستخف بك العامة ولا تدخل على ذي سلطنة الا وعنده من يعرفك وإذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة لئلا يأتي إليه من هو أقرب منك فيدنيه ويبعدك فيحصل في نفسك شئ. وسئل رضي الله عنه عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدرى وقال ينبغي للعام ان يورث جلساءه لا أدرى ليكون أصلا في أيديهم يفزعون إليه * وكان رضي الله عنه مهيبا جدا يقام بين يديه الرجل كما يقام بين يدي الأمراء وكانت العلماء تقتدي بعلمه والأمراء تستضئ برأيه والعامة منقادة إلى قوله فكان يأمر فيمتثل امره لغير سلطان ويقول فلا يسئل عن دليل على قوله ويأتي بالجواب فما يجسر أحد على مراجعته لشدة هيبته * وقد دخل على الخليفة المنصور العباسي وهو على فراشي وصبي يدخل ويخرج مترددا إلى مجلس الخليفة فقال له الخليفة
(٤٦٤)