أقول جواب هذا أيضا مثل ما مر في الفصلين السابقين، والحاصل أن حكم البراهمة بمجرد حسن الأشياء وقبحها عقلا يثبت أحد جزئي المدعى، وهو أن في الفعل قبل ورود الأمر والنهي جهة محسنة وصفة موجبة للحسن أو جهة مقبحة، وأما الجزء الآخر وهو ترتب الثواب والعقاب، فهم يعرفونه كما يعرفه أرباب الشرائع، لأن البراهمة وإن أنكروا النبوات والشرائع، فلم ينكروا الإلهيات حتى يلزم أن لا يعرفوا الثواب والعقاب على الأعمال، غاية الأمر أنهم قالوا: إن معرفة ذلك لا تتوقف على تعليم الأنبياء عليهم السلام، بل العقل مستقل به كما نقله عنهم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل عند نقل شبههم على نفي النبوات، حيث قال: إنهم قالوا: قد دل العقل بأن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم، وقد دلت الدلائل العقلية أن للعالم صانعا عالما قادرا حكيما، وأن له على عباده نعما توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكر بآلائه علينا، و إذ عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه، وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه، فما بالنا نتبع بشرا مثلنا، (1) فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا، وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلا على كذبه " إنتهى "، فظهر أن قول الناصب: وهم لا يعرفونه إنما نشأ من جهله وعدم معرفته بما ينبغي معرفته لمدعي الفضل والعرفان والله المستعان.
قال المصنف رفع الله درجته الرابع الضرورة قاضية بقبح العبث، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات
____________________
(1) وحكاه الله تعالى عن المشركين في آيات عديدة من القرآن كقوله تعالى: ما هذا إلا بشر مثلكم يريدان يتفضل عليكم، المؤمنون. الآية 24.