أقول: قد سبق منا دفعه هناك (1) أيضا بأن ثبوت الوجوب في نفس الأمر لا يدفع الافحام، وإنما يندفع بإثبات الوجوب على المكلفين، إذ لا نزاع لأحد في أن تحقق الوجوب في نفس الأمر لا
يتوقف على العلم بالوجوب، وإنما النزاع في أن
وجوب الامتثال بقوله: حين أمر المكلف بالنظر في المعجزة إنما يثبت إذا ثبتت حجية قوله، وهي لا تثبت عقلا على ذلك التقدير فيكون بالسمع، فمتى لم يثبت السمع لا يثبت ذلك الوجوب، والسمع إنما يثبت بالنظر، فله إن لا ينظر ولا يأثم، لأنه لم يترك ما هو الواجب عليه بعلمه، كما إذا وجب علينا حكم في نفس الأمر مكتوب في اللوح المحفوظ، ولم يظهر عندنا وجوبه علينا فلم نأت به لم نأثم، فيلزم الافحام بخلاف ما إذا ثبت الوجوب العقلي، فإنه إذا قال: انظر ليظهر لك
صدق مقالتي ليس له تركه، لوجوبه عقلا لثبوت الحس العقلي الحاكم بحسن التكليف، ومن المكلف به ما لا يستقل العقل للاهتداء إلى إدراكه، فيجب الرجوع في مثله إلى المؤيد من عند الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته الثامن لو كان
الحسن والقبح شرعيين لم تجب المعرفة (2)، لتوقف معرفة الايجاب على معرفة الموجب، المتوقفة على معرفة الايجاب فيدور.
قال الناصب خفضه الله أقول: جواب هذا أيضا قد مر فيما سبق، وأن توقف
وجوب المعرفة على
____________________
(1) وقد قلنا هناك أيضا: أنه إن أراد بنفس الأمر مقتضى الضرورة والبرهان ونحوه، فما فسروها به فهو راجع إلى الحسن والقبح العقليين، وإن أراد به ما في العقل الفعال ونحوه من المعاني فلا يطلع عليه كل أحد إلا ما شاء الله ولا يبعد أن الناصب أراد بنفس الأمر معنى استهزء به على أصحابه. منه " قده ".
(2) أي معرفة الله تعالى.