حجب جميع الجبال والحيطان، ويسمع الأطروش (1) وهو في طرف المشرق، أخفى صوت يسمع، وهو في طرف المغرب، وكفى من اعتقد ذلك نقصا ومكابرة لضرورة ودخولا في السفسطة. هذا اعتقادهم، وكيف
يجوز لعاقل، أن يقلد من كان هذا اعتقاده؟! وما أعجب حالهم يمنعون من مشاهدة أعظم الأجسام قدرا وأشدها لونا وإشراقا وأقربها إلينا مع ارتفاع الموانع وحصول الشرائط ومن سماع الأصوات الهائلة القريبة، ويجوزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في
الظلم الشديدة وبينهما غاية البعد، وكذا في السماع، فهل بلغ أحد من السوفسطائية في إنكارهم المحسوسات إلى هذه الغاية، ووصل إلى هذه النهاية؟! مع أن جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة، حيث جوزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان حال خروجه أناسا فضلاء مدققين في العلوم حال الغيبة، وهؤلاء جوزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ولا يشاهدون، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك، فلينظر العاقل المنصف المقلد، هل
يجوز له أن يقلد مثل هؤلاء القوم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى و يكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم أم لا؟! فإن
جوز ذلك لنفسه بعد تعقل ذلك وتحصيله، فقد خلص المقلد من إثمه وباء (2) هو بالإثم، نعوذ بالله من مزال الأقدام وقال بعض الفضلاء ونعم ما قال: كل عاقل جرب الأمور فإنه لا يشك في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدة مديدة حتى تنفصل أعضائه، ومحال
____________________
(1) الأطروش: الأصم، وقد يطلق على السميع، فاللفظ من الأضداد، والمراد هيهنا المعنى الأول.
(2) وقال في النهاية: أبوء بنعمتك أي ألتزم وأرجع وأقر، وأصل البواء اللزوم، و منه الحديث فقد باء به أحدهما أي التزمه ورجع به، والعرب يقول: باء بذنبه إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه، ومنه قوله عليه السلام في الدعاء المروي: وأبو، إليك من ذنبي.