أعرفية الرؤية بالنسبة إلى باقي الاحساسات يكاد أن يكون محسوسا، ولهذا تراهم يقدمون في الكتب الكلامية والحكمية القوى المدركة الظاهرة على الباطنة لظهورها وقوة الأبصار على غيرها من الظاهرة لأظهريتها وأعرفيتها كما نبه عليه سيد المحققين (1) في شرح المواقف، وغيره في غيره، وبما قررنا ظهر أنه يمكن الجواب بإرادة الشق الثالث وهو أن يراد بالادراك ما يشمل سائر الحواس الظاهرة، فإنها أعرف الادراكات الباطنة من إدراك نفس النفس وآلاتها الباطنة كما
عرفت، فظهر أن الشارح الجارح الناصب لقصور فهمه واستعداده وبعده عن أهل التحصيل، لم يحصل معنى كلام القوم، ولا معنى كلام المصنف الجليل، وأما سابعا فلأن قوله وكل هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحس مما لا محصل له أصلا، لأن المحسوسات معلومات لا علوم، ومن قال: إن العلم والمعلوم متحدان بالذات، أراد أن العلم بمعنى الصورة الحاصلة في العقل متحد مع المعلوم الحاصل فيه، لا أن العلم بمعنى إدراك الحواس الظاهرة متحد مع المحسوس الموجود في الخارج فإن هذا غلط وسفسطة كما لا يخفى، وأما ما ذكره من أن المصنف حسب أن مبدأ الفطرة هو حال الطفولية مدخول بأن ذلك مما لا يفهمه من كلام المصنف إلا معاند حريص في الرد عليه، فإن ظاهر معنى قوله وذلك مشاهد في حال الأطفال، هو:
أن خلو النفس في مبدء الفطرة عن مجموع العلوم وكونها قابلة لها مشاهد معلوم في حال الطفولية التي هي قريبة من مبدء الفطرة، فإن النفس خالية فيها أيضا عن جميع العلوم وقابلة لها، غاية الأمر أن الخلو في مبدء الفطرة أكثر من الخلو في حال الطفولية، فقوله قدس سره: وذلك مشاهد في حال الأطفال، تنبيه على دعوى خلو النفس الإنسانية في مبدء الفطرة من مشاهدة خلوها في حال الطفولة، لا تفسير لمبدء الفطرة بحال الطفولية كما توهمه هذا الجارح، فلا يلزم من كلام المصنف
____________________
(1) المراد هو السيد الشريف الجرجاني.