من المخالفة القطعية لدى التعذر من تحصيل العلم بجبهتها فيعود النزاع حينئذ لفظيا وكيف كان فنقول لا شبهة بل لا خلاف ظاهرا في أنه يجب عند مشاهدة الكعبة أو العلم بجبهتها الخاصة المحاذية لها من استقبالها حقيقة بنظر العرف بان تكون الكعبة بعينها أو جهتها الخاصة بين يديه وما عن بعض من جواز الانحراف عمدا لدى العلم بجبهتها الخاصة ما لم يخرج عن المشرق والمغرب أو في الجملة مما لم نتحققه وان كان ذلك مقتضى اطلاق بعض كلماتهم الآتية في تشخيص الجهة لكن لا يظن بأحد ارادته لدى العلم التفصيلي بجبهتها الخاصة وعلى تقدير تحقق الخلاف فهو ضعيف من غير فرق بين القريب والبعيد ولكن لا يعتبر في صدق الاستقبال عرفا المحاذاة الحقيقية بحيث لو خرج خط مستقيم من مقاديم المستقبل قائم على خط خارج من يمينه وشماله لوقع على الكعبة بل أعم من ذلك فان صدق الاستقبال مما يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد فإنك إذا استقبلت صفا طويلا بوجهك وكنت قريبا منهم جدا لا يكون قبلتك من أهل الصف الا واحدا منهم بحيال وجهك ولكنك إذا رجعت قهقري بخط مستقيم إلى أن بعدت عنهم مقدار فرسخ مثلا لرأيت مجموع الصف بجملته بين يديه بحيث لا تميز من يحاذيك حقيقة عن الاخر مع أن المحاذاة الحقيقية لا تكون الا بينك وبين ما كان أولا وان أردت مثالا أوضح فانظر إلى عين الشمس أو الكواكب التي تراها قبال وجهك فان جرم الشمس وكذا الكواكب وما بينها من الفاصل أعظم من مساحة الأرض أضعافا مضاعفة ومع ذلك ترى مجموعها بين يديك حيال وجهك فلو فرض ان الله تعالى جعل قبلتك الشمس أو كوكبا من تلك الكواكب فهل ترى مائزا بين وقوفك مقابل هذا الطرف من الشمس أو الطرف الآخر وبين هذا الكوكب والكوكب الاخر القريب منه مع أن البعد بينهما أزيد من مساحة الأرض ولا يعقل ان يحاذيك حقيقة الاجزاء منها بمقدار جثتك وبهذا فسر غير واحد ما شاع في ألسنتهم من أن الشئ كلما ازداد بعدا ازدادت جهة محاذاته سعة وبه يندفع ما أورده الشيخ رحمه الله على القائلين بان القبلة هي الكعبة من لزوم خروج صلاة أكثر من صلى في صف طويل عن القبلة لما أشرنا إليه فيما سبق من أن هذا بالنسبة إلى القريب مسلم واما إذا كان الصف بعيدا فيرى كل من أهل الصف القبلة حيال وجهه فيكون مستقبلا حقيقة وان لم تكن القبلة محاذية للخط القائم (على الخط الخارج) من طرفي المستقبل على سبيل التدقيق فان هذا ليس شرطا في صدق الاستقبال بنظر العرف كما أوضحناه في ضمن الأمثلة المتقدمة وعن بعض المدققين التفصي عن نقض الشيخ بعد توجيه كلامه بما تقدمت الإشارة إليه من إرادة المخالفة القطعية للمأموم لدى الفصل بينه وبين الامام بأزيد من طول الكعبة بان كروية الأرض مانعة عن القطع بالمخالفة فإنها مانعة عن خروج خطوط متوازية عن موقف المصلين فمن الجائز تلاقيهما عن الكعبة وفيه نظر فان كروية الأرض في حد ذاتها غير مقتضية لخروج الخطوط عن التوازي وانما المقتضى له كون أهل الصف كاجزاء الأرض بالطبع مائلا إلى المركز وهذا وان اقتضى خروج الخطوط عن التوازي لكن ملتقاها عند القطب الذي يفرض الصف المستطيل منطقتها واني هذا من الكعبة اللهم الا ان يفرض الصف في دائرة عظيمة (تكون الكعبة) قطبها وليس فرض الشيخ مقصورا عليه فالأولى ان يجاب عن النقض بان فرض استواء الصف المستطيل مجرد فرض لا يكاد يدرك بالحس فمن الجائز كون بعض أهل الصف مائلا إلى جانب الاخر بمقدار تتلاقى الخطوط الخارجة من مقاديمها عند الكعبة أو يكون موفقهم على قطعة قوس من دائرة محيطة بالكعبة وحيث إن الدائرة المفروضة من البعيد عظيمة لا يكاد يدرك تحدب قوسها بالحواس الظاهرة إذ لو فرض صف في العراق بمقدار فرسخين وكان في الواقع على الدائرة المحيطة بالكعبة لا يكون انحنائه في طول الفرسخين أزيد من شبر أو شبرين فكيف يمكننا الجزم بعدم المحاذاة بمجرد ان نرى الصف أطول من الكعبة بل لنا ان نقول على تقدير كون الصف المفروض من بعيد مستويا حقيقة أيضا أمكن ان يكون جميع أهل الصف محاذيا لعين الكعبة حقيقة فانا إذا فرضنا صفا طويلا قريبا من الكعبة وكان بعض أهل الصف خارجا عن محاذاة الكعبة فرجعوا قهقري بخطوط متوازية عدة فراسخ مثلا فمن كان خارجا عن محاذاة الكعبة حال كونه قريبا وان كان باقيا بحاله بنظر العقل على تقدير حفظ النسبة وفرض الخطوط متوازية لكن لو بدا لهذا الشخص ان يحاذي عين الكعبة حقيقة ويستقبلها بوجهه استقبالا حقيقيا لا يحتاج في ذلك إلى انحراف محسوس بل لو انحرف انحرافا محسوسا أقل ما يمكنه لوقعت الكعبة إلى جانبه الاخر والحاصل انه متى بلغ البعد إلى حد لا يمتاز استقبال الكعبة عن استقبال ما حوله بحيث يتوقف أحدهما على حركة مغايرة للحركة التي يحصل بها الاخر فهو في هذه الحركة الشخصية مستقبل لهما فأهل الصف الطويل بأسرهم حقيقة متوجهون إلى الكعبة والظاهر أن هذا هو المراد بقولهم في رد الشيخ ان الشئ كلما ازداد بعدا ازدادت محاذاته سعة لا المعنى الأول كما تقدمت حكايته عن بعض إذ الظاهر أن غرضهم التوسعة في جانب المستقبل لا القبلة وبهذا ظهر لك امكان الالتزام بكون المحاذاة بين المستقبل وبين الجهة التي التزمنا باتساعها للبعيد على التفسير الأول حقيقية فان هذا انما يصدق عرفا على سبيل الحقيقة من غير مسامحة على الجهة التي يراها المستقبل حيال وجهه بحيث لا يتميز استقبال اجزائها بعضها عن بعض بحيث يكون محاذاة يمينها مثلا محتاجا إلى وضع مغاير في الوجود الخارجي لوضعه الذي به يحصل محاذاة شمالها فمتى لم يكن محاذاة الاجزاء محتاجا إلى أوضاع متمايزة فهو باستقباله الشخصي محاذ حقيقة لجميع الاجزاء وكيف كان فالعبرة مع مشاهدة الكعبة حقيقة أو حكما انما هو بالتوجه إليها واستقبال شئ منها بان يجعله بين يديه على وجه صدق عليه اسم المقابلة حقيقة بنظر العرف وهل يعتبر استقبالها بجميع مقاديم البدن أو معظمها الموجب لصدق استقبال البدن عرفا وجهان بل قولا أوجههما الأخير كما ستعرف إن شاء الله واما مع عدم مشاهدة العين والجهل بجهتها الخاصة فالمعتبر استقبال جهتها كما هو المشهور بل لو قلنا بالقول الثاني أيضا لا يجب على من لم يشاهد المسجد أو الحرم حقيقة أو حكما الا استقبال جهتهما وما تقدمت حكايته عن الشيخ مما يظهر منه اعتبار محاذاة نفس الحرم ضعيف كما يشهد له مضافا إلى ما ستعرف عدم الخلاف ظاهرا في اجتزاء البعيد بالعلامات الآتية لأهل الأقطار العظيمة مع أنه لا يتعين بها الا جهتهما كما سنوضحه إن شاء الله وليعلم ان كلمات الأصحاب رضوان الله عليهم قد اختلف في تفسير الجهة أو تحديدها فمن؟ هنا تشتت أقوالهم ففسرها بعض متأخري المتأخرين بجهة المحاذاة التي بينا اتساعها للبعيد بالمعنى الأول
(٨٧)