الثاني: ان لا يكون المراد به ثبوت حكم ظاهري، بل يراد به ما أريد بقوله: (وكان مأمونا) فيكون النظر إلى نفس الواقع ويكون المقصود من الجواز الشرعي رفع فعلية الواقع المستتبع لعدم التنجز، ومن الجواز العقلي رفع تنجزه فإن إثبات الفعلية ورفعها من وظائف الشارع والحكم بالتنجز وعدمه من وظائف العقل.
الثالث: ان يراد بكل من الجواز الشرعي والعقلي، التصرف في مرتبة التنجز، فإن للشارع ان يوجب الاحتياط في مورد الشك تحفظا على الواقعيات فيصير حكمه بوجوب الاحتياط موجبا لتنجز الواقعيات في مورد الشك أيضا، فالمراد بالجواز العقلي حكم العقل بعدم تنجز الواقع بصرف الاحتمال، وبالجواز الشرعي عدم جعل حكم طريقي - كإيجاب الاحتياط - موجب لتنجز الواقع في ظرف الشك. و عليه فيصير المدعى امرا مركبا يثبت أحد جزئيه بالعقل والاخر بالشرع، وحاصله انه إذا شك في التكليف ولم تنهض عليه ما يثبته فنفس الاحتمال لا يكفي لتنجزه بحكم العقل ولم يتحقق من الشارع أيضا ما يوجب التنجز مثل إيجاب الاحتياط.
والظاهر، تعين الاحتمال الثاني على ما هو ظاهر عبارته وبطلان الآخرين، فإن جعل الإباحة في مرحلة الظاهر مضافا إلى كونه لغوا، لا دليل له فإن المستفاد من حديث الرفع وأمثاله كون النظر إلى نفس الواقع، والظاهر من قوله شرعا وعقلا كون كل منهما دليلا مستقلا على البراءة.
الجهات المبحوث عنها في البراءة:
وبهذا البيان ظهر تحرير محل البحث في المسألة وان المبحوث عنه أحد أمور ثلاثة:
1 - أن تكون الحيثية المبحوث عنها، هي ان صرف احتمال التكليف هل يكفي لتنجزه أم لا بمعنى انه لو فرض الشك في حكم شرعي ولم يكن في البين سوى الاحتمال فهل يحكم العقل بتنجز الواقع به على فرض ثبوته أو لا يكفي صرف الاحتمال في تنجيزه،؟ والبراءة بهذا النحو كانت مبحوثا عنها في كلام القدماء، وربما كانوا يعبرون عنها باستصحاب حال العقل.
والمراد بتنجز الواقع هو صيرورته بحيث يخرج العبد بمخالفته عن زي الرقية ورسم العبودية ويصير بها طاغيا على مولاه ويترتب على ذلك كونه مذموما عند العقلا ومستحقا لعقوبة المولى بمعنى عدم تقبيحهم للمولى على عقوبة هذا العبد.