ويرد على الثالث: أن الغرض من الواجب إن كان يحصل بفعل الواحد، فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع، وإن كان لا يحصل إلا بفعل الجميع، فكيف يسقط بفعل الواحد؟.
التحقيق في تصوير الواجب الكفائي:
والتحقيق أن يقال في تصويره: إن الوجوب مطلقا له إضافة إلى من يصدر عنه - أعني الطالب -، وإضافة أخرى إلى من يتوجه إليه - أعني المطلوب منه -، وإضافة ثالثة إلى ما يتعلق به - أعني المطلوب -. والفرق بين العيني والكفائي ليس في المطلوب منه، كما هو مقتضى التصويرات الثلاث، بل الفرق بينهما في المطلوب، فالمطلوب في الوجوب الكفائي هو نفس الطبيعة المطلقة غير المقيدة بصدورها عن هذا الشخص، بخلافه في الوجوب العيني، فإنه عبارة عن الفعل المقيد بصدوره عن هذا الفاعل الخاص. وتفصيل ذلك: هو أنه قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن كل واحد من المكلفين، فحينئذ يؤمر كل واحد منهم بإيجاد الطبيعة المقيدة بصدورها عن نفسه، ففي قوله: (أقيموا الصلاة) مثلا يكون كل واحد من المكلفين مأمورا بإيجاد طبيعة الصلاة المقيدة بصدورها عن نفسه، وقد تكون المصلحة في صدور طبيعة الفعل وتحققه في الخارج من غير تقيد بصدوره عن شخص خاص، فحينئذ يؤمر كل واحد من المكلفين بإيجاد هذه الطبيعة المطلقة حتى عن قيد صدورها عن نفسه.
والحاصل: أن مطلوب المولى في الوجوب الكفائي هو وجود الطبيعة المطلقة غير المقيدة بصدورها عمن كلف بها، غاية الأمر أنه لما كان مطلوب المولى تحقق أصل الطبيعة من غير أن يكون لصدورها عن هذا الفاعل، أو عن ذاك دخالة في الغرض، وكان كل واحد من المكلفين قادرا على إيجاد هذه الطبيعة، فلا محالة يتوجه طلبه إلى كل واحد واحد منهم لعدم خصوصية موجبة للتخصيص بواحد منهم، و معه يكون التخصيص ترجيحا بلا مرجح.
وبالجملة: التكليف يتوجه إلى كل واحد منهم مستقلا، ولكن ما كلف به كل واحد منهم عبارة عن أصل الطبيعة غير المقيدة بصدورها عن نفسه، فالمكلفون متعددون، وكل واحد منهم توجه إليه التكليف مستقلا، لكن المطلوب والمكلف به في جميع هذه التكاليف أمر واحد، أعني به الطبيعة المطلقة، ففي مسألة تجهيز الميت مثلا كل واحد من الناس مكلف مستقلا، ولكن المكلف به، في الجميع أمر وحداني، فزيد مكلف بإيجاد طبيعة الدفن مثلا من غير أن تكون هذه الطبيعة مقيدة بصدورها عن نفسه، وكذلك عمرو وبكر و غيرهما، ولازم هذا النوع من