بداهة أنه بعد مراجعة الوجدان لا نرى فيما ذكرت من المثال إلا بعثا واحدا، ولو سئل المولى - بعد ما أمر بشئ له مقدمات - هل لك في هذا الموضوع أمر واحد أو أوامر متعددة؟ فهل تراه يقول:
إن لي أوامر متعددة؟ لا، بل يجيب بأن لي بعثا واحدا وطلبا فاردا متعلقا بالفعل المطلوب. نعم، لا ننكر أن العقل يحكم بوجوب إتيان المقدمات حفظا لغرض المولى وتمكنا من إتيانه، ولكن أين هذا من الوجوب الشرعي والطلب المولوي. وبالجملة: الوجدان من أقوى الشواهد على عدم تعدد البعث من قبل المولى بتعدد المقدمات، و لذا لو التزم المولى بأن يعطي بإزاء كل أمر امتثله العبد دينارا، فامتثل العبد أمرا صادرا عنه متعلقا بفعل له ألف مقدمة مثلا، فهل ترى للعبد أن يطالب المولى بأكثر من دينار واحد؟ ولو طالبه فهل يجب على المولى إعطاؤه؟ لا، ولا يرى العبد نفسه مستحقا إلا لدينار واحد، و ليس ذلك إلا لعدم وجود البعث بالنسبة إلى المقدمات، بل الموجود بعث واحد متعلق بالفعل المطلوب حتى في صورة جعل المقدمة في قالب الطلب أيضا، لما عرفت من أن البعث نحو المقدمة، بما هي مقدمة عين البعث نحو ذيها بالنظر الدقيق. هذا مضافا إلى أن الوجوب الذي لا امتثال له ولا عقاب على مخالفته ولا يحصل بموافقته ومخالفته قرب ولا بعد يكون كالعدم، ولا يستحق لان يطلق عليه اسم الامر و البعث ونحوهما.
فتحصل مما ذكرنا أن الصادر عن المولى بعث واحد وطلب فارد متعلق بالمطلوب بالأصالة وبمقدماته بالعرض.
ونظير البعث الانشائي البعث العملي، فإن المولى إذا أخذ بيد العبد و جره نحو المطلوب فلا يعد هذا البعث إلا بعثا واحدا متعلقا بالمطلوب النفسي، ولا يكون هذا البعث متعددا عند العقلا بعدد المقدمات، بحيث يرى كل واحدة منها مبعوثا إليها بالاستقلال، هذا كله فيما يتعلق بمقدمة الواجب.
مقدمة المستحب والحرام:
وأما مقدمة المستحب فيعرف الكلام فيه مما سبق في مقدمة الواجب، وقد عرفت أن مقدمة الواجب ليست مبعوثا إليها بنحو يستحق أن يطلق عليه اسم البعث والامر، فقس عليها مقدمة المستحب فلا تستحق أن يقال: إنها من المستحبات الشرعية في قبال سائر المستحبات.
وأما مقدمة الحرام فالتحقيق فيها أن يقال: إنه قد اختلف في معنى النهي فقد يقال: إنه عبارة عن طلب الترك، بمعنى أنه يشترك مع الامر في كون كليهما من مقولة الطلب والبعث، غاية الأمر