وقد مر منا في باب حجية الظواهر مبنى جريان السيرة على العمل بها، وقلنا إن السيرة ليست وسطا لاثبات الحجية بان يكون كل منا في مقام إثبات حجية الظواهر أو الاخبار محتاجا إلى مراجعة بناء العقلا والاستمداد من عقولهم، بل المراد بها حكمهم بالحجية بما هم عقلا، ومرجع ذلك إلى حكم العقل، فكل أحد يستقل عقله بوجوب متابعة ظواهر كلام المولى وما نقل منه بالطريق الموثوق به من جهة انه لا طريق لتحصيل مرادات المولى الا ذلك لعدم وفاء القطع.
فتحصل مما ذكرنا، ان مرجع السيرة التي هي عمدة أدلة حجية الظواهر والاخبار أيضا إلى دليل الانسداد بتقريب ذكرناه فراجع إلى ما حررناه في مبحث الظواهر حتى يتضح لك ما بيناه.
التنبيه الرابع:
وقد ظهر بما ذكرناه من تقرير الانسداد، انه لا مجال للنزاع في أن الثابت بالانسداد حجية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما، فان الثابت به كما قررناه ليست حجية مطلق الظن، بل حجية طريق خاص وان لم يفد ظنا وهذا الطريق، طريق إلى الواقع ولم نكلف الا بإحراز الواقعيات والعمل بها وليست لنا طرق مجعولة تأسيسا حتى يجب علينا العمل بها وتصير نتيجة الانسداد حجية الظن بها، كيف ولو صدر من الشارع جعل تأسيسي لطريق، لتوفرت الدواعي على ضبطه لشدة الاحتياج إليه وتواتر نقله لنا، فتدبر.
التنبيه الخامس: حجية الاخبار إجمالا ولو عند التعارض بدليل الانسداد لا يخفى ان مبنى شريعة الاسلام وما هو الموجب لاثبات أحكامه وبقائها في جميع الأمصار إلى يوم القيامة اخبار الثقات العدول لا غير، فان الاجماع المنقول والشهرة الفتوائية أيضا راجعان إلى الخبر لكشفهما عن وجود نقل معتبر عند المجمعين والمفتين، وان لم يضبط في الجوامع، بل القياس أيضا على فرض حجيته راجع إليه لابتنائه على استنباط العلة والمناط لحكم ثبت بالنقل، وقد عرفت ان المستفاد بسيرة العقلا وبدليل الانسداد أيضا هو حجية الاخبار، فهي امر مسلم ولولاها انهدم أساس الشريعة، فحجيتها من الضروريات بعد العلم بعناية الشارع ببقاء أحكامه إلى يوم القيامة من غير فرق بين ما كان بواسطة أو بلا واسطة.
إذا عرفت هذا فنقول: كما أنه يثبت بتقرير ذكرناه لدليل الانسداد أصل حجية الاخبار، فكذلك تثبت به حجيتها إجمالا حين التعارض إذ قلما تتفق في الفقه مسألة لم يرد فيها خبران متعارضان ولو بدوا، فلو كانت حجية الخبر مقصورة على صورة عدم التعارض لم يبق لنا طريق لاثبات الأحكام الشرعية المجعولة في الأبواب المتفرقة للدواعي والاغراض المتشتتة، وانهدم أساس الشريعة، فحجيتها إجمالا حتى عند التعارض ضرورية.