الوجه الأول:
ان يقال: ان الآية غير مربوطة بباب الجهاد أصلا كما هو مقتضى ظاهرها بل هي لبيان وجوب النفر لطلب العلم والتفقه في الدين و السياق غير قادح كما عرفت وعلى هذا فكلمة (ما) في صدر الآية للنفي لا للنهي واللام لتأكيد النفي ولعل المراد، - والله أعلم - ان المؤمنين ليسوا بأجمعهم أهلا للنفر فلو لا نفر من كل فرقة وقبيلة منهم طائفة، والمستفاد من ذلك ان المقتضى لنفر الجميع موجود بحيث لو لم يكن مانع عنه لامروا جميعا بالنفر والتفقه ولكنهم ليسوا أهلا لذلك لاختلال نظامهم وتفرق امر معاشهم وحينئذ فلم لا يجعلون الاحتياج إلى المطالب الدينية في عرض سائر احتياجاتهم؟ فيوجهون طائفة منهم إلى تحصيلها كما يتوجه كل طائفة منهم إلى جهة من الجهات الأخرى المربوطة بأمور المعاش كالزراعة والنجارة والتجارة ونحوها. والمراد بالفرقة على ما فسروه، هو القبيلة و وجه تسميتها بها افتراق كل قبيلة عن غيرها في موطن الإعاشة وكيفيتها، ففي الحقيقة يكون المنظور، امر كل جماعة مفترقة عن الجماعات الأخرى كأهل قرية أو بلد افترقوا عن أهالي سائر القرى والبلدان بان يتوجه منهم طائفة ليتفقهوا في الدين فيرشدوا بأنفسهم ويرشدوا قومهم إذا رجعوا إليهم، والمراد بالانذار ليس صرف التخويف بنقل آيات العذاب مثلا بل المراد به إيصال الأحكام الشرعية الحاصلة لهم بالتكلف والجد والاجتهاد في الفقه، كما أن المراد بحذر القوم هو الحذر العملي أي الانتهاء عما نهى الله عنه و الائتمار بما امر به والتعبير عن إيصال الاحكام وامتثالها بالانذار والحذر، انما هو من جهة ان الأوامر والنواهي تتضمن مخالفتها العقاب فمن يبلغ حكم الله إلى أحد فهو يخوفه ويحذره عن مخالفته بالالتزام.
وبالجملة: فهذه الآية، على ما ذكرنا، تدل على أنه لولا مخافة اختلال النظام، لامر الجميع بالنفر في تحصيل الفقاهة، ولكنه بعد ما يلزم من نفر الجميع الاختلال فلم لا ينفر بعضهم ليرشدوا بأنفسهم ويرشدون ويصير ذلك سببا لاطلاع جميع الناس على أحكام الله تعالى وحلاله وحرامه فسياق الآية ينادى بأعلى صوته إلى مطلوبية الانذار والحذر ووجوبهما فلا نحتاج في إثبات ذلك إلى بيان مفاد (لعل) وان المراد بها ليس هو الترجي الحقيقي بل مطلوبية مدخولها ونحو ذلك من التقريبات التي قرروها في المقام، والتعبير ب (لعل) انما هو من جهة ان الانذار ليس مستتبعا لحذر القوم دائما إذ ربما لا يؤثر كلام المنذرين فيهم كما هو المحسوس بين الأنبياء وأقوامهم أيضا، فالمراد ان المنذر يجب عليه العمل بوظيفته ولا يعوقه عن ذلك احتمال عدم تأثير كلامه فان في التبليغ مظنة التأثير.
هذا هو المعنى المستفاد بالتأمل في ظاهر الآية وتشهد لهذا الوجه اخبار كثيرة حيث استشهد