(ما ورثك الله من كتابه حرفا) فان المراد بميراث الكتاب، ليس فهم ظواهره بل العلم به بتمامه ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومخصصه و مقيدة ونحو ذلك مما لا يجوز الافتاء على طبقه الا بعد معرفتها، وهذا شأن النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام فإنهم ورثوا هذا المعنى من النبي صلى الله عليه وآله وصار قولهم حجة في عرض الكتاب ولم يرثه مثل أبي حنيفة وقتادة عنه صلى الله عليه وآله و لذا قال لأبي حنيفة: (لقد ادعيت علما) وكان ردعهما لجلوسهما مجلسا عظيما، حيث جلسا مجلس الافتاء ليراجع إليهم الناس في جميع ما يحتاجون إليه من الوظائف الدينية، مع اختصاص هذا بمن ورث الكتاب من النبي صلى الله عليه وآله ومن اقتبس من آثارهم وعرف أحكامهم وروى أحاديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم.
كيف ولو لم تكن هذه الأخبار ظاهرة فيما ذكرنا لوجب حملها عليه جمعا بينها وبين الأخبار الكثيرة الواردة في إرجاع الناس إلى الكتاب وعرض الاخبار عليه.
وعن الوجه الثاني: فبان القرآن وان اشتمل على المطالب العالية ولكنه لما كان منزلا لهداية الناس وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، نزل على أسلوب عجيب، فيفيد هذه المطالب العالية لكل من عرف اللغة العربية، وهذا أحد وجوه إعجازه، وقياسه بكلمات الأوائل و الفلاسفة، قياس مع الفارق، فان الفلاسفة لم يصنفوا كتبهم لعامة الناس ليستفيد منها كل أحد ولم يكونوا بصدد إصلاح عامة الناس و هدايتهم وإرشادهم بل قصدوا بذلك بيان ما وصل إليه أفكارهم حتى يطلع عليها العارف باصطلاحاتهم.
هذا مضافا إلى أن سوق الكلام بنحو لا يفهمه الا الأوحدي ليس دليلا على شموخ المطلب بل يمكن ان يكون من ضعف المتكلم فان إنزال المطالب العالية إلى مرتبة تناسب أذهان العامة أيضا ممكن.
ثم إن مطالب القرآن أيضا ليست بأجمعها عالية عن سطح أفكار الناس، فان منها ما يرجع إلى بيان الاحكام ومنها ما يرجع إلى الانذارات والتبشيرات وهذان القسمان سهل التناول لكل أحد، ومنها ما يرجع إلى بيان الحقائق الكونية وهي مما لا يفهمه العامة أو لا بل ينكشف بعضها بالتدريج وبمرور الأيام وازدياد علوم الناس وتجربياتهم وتكاملهم في الصناعات كما في كثير من المطالب، كحركة الأرض وكرويتها ونحوها مما كانت مجهولة في عصر نزول القرآن، خصوصا للعرب حيث كانوا أبعد الناس من المدنية حتى أن كتابة الخط بينهم كانت منحصرة في اشخاص مشارة بالبنان.