أبو تمام قلة خبرته بأمر الخيل، ألا ترى إلى قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وخيل تعلك اللجما خيل صيام: أي واقفة مستغنى عنها لكثرة خيلهم، وخيل تحت العجاج في الحرب، وخيل تعلك اللجم قد أسرجت وألجمت وأعدت للحرب (اه). (وأقول) تلوكها الحرب معنى لا قبح فيه، فلوك الحرب لها مجاز عما يصيبها في الحرب كما يقال: أكلتهم الحرب وضرستهم بأنيابها ونحو ذلك. وكون الخيل لا تلوك الشكيم في المكر غير مسلم، فهي في المكر توقف فتعلك الشكيم، لأن المراد بالمكر مكان الكر لا ساعة الكر فهو كقول أنس بن الريان:
أقود الجياد إلى عامر * عوالك لجم تمج الدماء الذي اعتذر عنه الآمدي بأن القود قد يكون في خلاله تلبث وتوقف.
44 - قال: ومن أخطائه قوله:
والحرب تركب رأسها في مشهد * عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقمانا بها * وهو الحكيم لكان غير حكيم جثمت طيور الموت في أوكارها * فتركن طير العقل غير جثوم جعل طير الموت في أوكارها جاثمة أي ساكنة لا ينفرها شئ وطير العقل غير جثوم يعني أنها نفرت فطارت يريد طيران عقولهم من شدة الروع، وما كان ينبغي أن يجعل طير الموت جثوما في أوكارها بل جاثمة على رؤوسهم أو واقعة عليهم، فإنها في السلم والأمن جاثمة في أوكارها، وطير العقل ليست ضدا لطير الموت بل ضد لطير الجهل، وطير الحياة هي ضد لطير الموت، وقوله غير جثوم لا ينوب مناب طائرة لأن الطير يكون جاثما ويكون قائما على رجليه ساكنا مطمئنا (اه) (وأقول) جثوم طير الموت في أوكارها كناية عن حضورها واستقرارها في محل المعركة وفي ساعة الحرب، ولعل المراد بأوكارها آلات القتال فإن ساعة الحرب لما كانت مظنة الموت والخطر صح أن يقال إن طير الموت جاثمة في أوكارها فيها في السيوف والرماح والنبال، أما في ساعة السلم فلو قيل إن طير الموت جاثمة فيها في أوكارها لكان المراد به معنى آخر وهو بعدها عن الأحياء، وغير الجاثم يصح أن يعبر به عن غير المستقر، باعتبار أن الغالب على غير الجاثم عدم الاستقرار.
45 - قال ومن أخطائه قوله في وصف الفرس.
ما مقرب يختال في أشطانه * ملآن من صلف يه وتلهوق يقال أقرب المهر إذا دنا من أن يصير ثنيا قال الآمدي (ملآن من صلف) يريد التيه والكبر، وهذا مذهب العامة في هذه اللفظة، فأما العرب فإنها لا تستعملها على هذا المعنى وإنما تقول صلفت المرأة عند زوجها إذا لم تحظ عنده وصلف الرجل إذا كانت زوجته تكرهه والصلف الذي لا خير عنده فقد ذم الفرس من حيث يريد أن يمدحه وقد ذكر أبو عبيدة القاسم في الغريب المصنف في أول نوادر الأسماء التلهوق وقال وهو مثل التملق وما أرى أبا تمام في وضع هاتين اللفظتين إلا غالطا (اه) (أقول) ذكر في القاموس من معاني الصلف مجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا فهو إذا يقارب معنى التيه والكبر، وقال الزمخشري في الفائق: التلهوق أن يتزين بما ليس فيه من خلق ومروة ويدعي الكرم والسخاء بغير بينة، وعندي أنه تفعول من اللهق وهو الأبيض فقد استعملوا الأبيض في موضع الكريم لنقاء عرضه مما يدنسه من ملامات اللئام (اه). وفي القاموس رجل لهوق كجرول مطر مذ فياش (اه). مطر مذ ملق وفياش متكبر فلا مانع من استعمال التلهوق في إظهار أكثر مما فيه تيها وتكبرا، وكأن أبا تمام أخذ بيته من قول الكميت:
أجزيهم يد مخلد وجزاؤها * عندي بلا صلف ولا بتلهوق 46 - وقال أبو تمام:
وثنوا على وشي الخدود صيانة * وشي البرود بمسجف وممهد قال الآمدي: المسجف المرخى والممهد. الوطاء الذي يوطأ تحت المرأة فكيف يكون مشركا مع المسجف الذي ذكر أنهم ثنوه على وشي الخدود، والممهد ليس حاله هذه فيعطفه عليه.
47 - قال: ومن أخطائه قوله:
بقاعية تجري علينا كؤوسها * فتبدي الذي نخفي وتخفي الذي نبدي أي إن الخمر تخفي الذي نبديه في حال الصحو من الحلم والوقار والكف عن الهزل، وتبدي الذي نخفي أي الذي نعتقده ونكتمه من ضد ذلك لأنه في الطبيعة والغريزة، والذي كنا نظهره إنما هو تصنع وتكلف، فكل شئ يظهره الإنسان وليس في اعتقاده فان الذي يضمره ويكتمه هو ضده فإذا أظهر السكر اعتقاد المعتقد الذي هو الصحيح فان ضده مما كان يتجمل باظهاره يبطل ويتلاشى لا أن الشراب يخفيه ويكتمه كما كانت الحقيقة مكتومة، هذا محال لأن القلب هو محل المعتقدات فلا يجوز أن يجتمع فيه الشئ وضده، والاعتقادات لا تكون باللسان لأن اللسان يكذب والقلب لا يتضمن إلا الحقيقية، وقول أبي تمام (فتبدي الذي نخفي) صحيح، وقوله (وتخفي الذي نبدي) فاسد، لأن نخفي معناه نكتم ونستر، والذي قد أبطلته وأزلته لا يجوز ان يعبر عنه بأنك أخفيته وكتمته (اه) (وأقول) هذا استقصاء على أبي تمام بارد، فالتعبير عما أزالته بأنها أخفته ليس بالأمر الصعب ولا المستهجن.
48 - قال: ومن أخطائه قوله في وصف فرس.
وبشعلة نبذ كان فليلها (فلولها) * في صهوتيه بدو شيب المفرق (فليلها) ما تفرق منها (والصهوة) موضع اللبد وهو مقعد الفارس من الفرس، وذلك الموضع أبدا ينحت شعره لغمز السرج إياه، فينبت أبيض لأن الجلد هنا يرق، وأنت تراه في الخيل كلها على اختلاف شياتها، وليس بالبياض المحمود ولا الحسن ولا الجميل (أقول) ولا بالبياض المذموم، وأبو تمام شبهه ببدء شيب المفرق، ولم يدع حمده ولا حسنه ليكون مخطئا. قال: وهو خطأ من وجه آخر وهو أنه جعله شعلة، والشعلة لا تكون إلا في الناصية أو الذنب وهو أن يبيض عرضها وناحية منها فيقال:
فرس أشعل وشعلاء، وذلك عيب من عيوب الخيل، فإن كان ظهر الفرس أبيض خلقة فهو أرحل ولا يقال أشعل.
49 - قال: ومن قبيح وصف شياة الخيل قول أبي تمام في هذا الفرس أيضا:
مسود شطر مثل ما اسود الدجى * مبيض شطر كابيضاض المهرق