والحكم. ونظم في المراسلات لاخوانه فكان عنوان الوفاء وطراز حفظ المودة والإخاء. ونظم الروميات فكانت فريدة في بابها في رقتها وكشفها عن طبع رقيق وعاطفة شديدة ونفس كبيرة وهمة عالية. ونظم في شكوى الزمان وعتاب الاخوان والشوق إلى الأهل والأوطان فأبدع ولم يعد الحقيقة ونظم في الإشارة إلى القصص والاخبار والتواريخ فكشف نظمه فيها عن خبرة واسعة. وفي شعره الأمثال السائرة الكثيرة التي يتمثل بها الأدباء في محافلهم والخطباء على منابرهم. ونظم في الالغاز وغير ذلك من فنون الشعر التي تجدها فيما سنتلوه عليك من شعره وأجاد وبلغ الغاية في كل ما عاناه من ضروب الشعر ولم تقتصر اجادته على ما مارسه أو اتصف به من وصف الحروب والشجاعة والفخر. وقلما يوجد كتاب أدب أو تاريخ أو نحوها ليس فيه استشهادات من شعره. نكتة طريفة في اليتيمة: حكى بديع الزمان أبو الفضل الهمداني ان الصاحب أبا القاسم قال يوما لجلسائه وانا فيهم وقد جرى ذكر أبي فراس: لا يقدر أحد ان يزور على أبي فراس شعرا فقلت ومن يقدر على ذلك وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك * ولا تعز السباع إلى رباعك ولا تعن العدو علي اني * يمين ان قطعت فمن ذراعك فقال الصاحب: صدقت، قلت أيد الله مولانا قد فعلت!. قال صاحب اليتيمة: ولعمري انه قد أحسن ولم يشق غبار أبي فراس اه.
ديوان شعره وديوان شعره قد جمعه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن خالويه النحوي اللغوي وشرح الوقائع التي أشار إليها أبو فراس في شعره وذكر جملة من اخباره، والموجود بأيدي الناس هو برواية ابن خالويه جمعه غير مرتب على الحروف وقال في مقدمته بعد كلامه المتقدم في مدح أبي فراس:
وما زال رحمه الله تعالى ايجابا لحق الأدب في رعاية الصحابة والعلم باهل المخالصة يلقي إلي دون الناس شعره ويحظر علي نشره حتى سبقتني به الركبان فجمعت منه ما ألقاه إلي وشرحت من زبدة اخباره رضي الله عنه والأيام المذكورة فيه ما أرجو ان يقرنه الله عز وجل بالصواب والرشاد بمنه ولطفه وطوله وقوته وحوله اه.
وهذا الديوان طبع في بيروت لأول مرة سنة 1873 م وحذف منه شروح ابن خالويه الا أقلها ونقص منه جملة من القصائد بتمامها ونقص من القصائد المذكورة فيه عدة أبيات وكان مشحونا بالأغلاط لعدم معرفة الواقفين على طبعه فجاء كثير من كلماته محرفا أو ناقصا أو غير ذلك من الأغلاط. وهو بهذه الطبعة أول ديوان شعر قرأته وسني بين السبع والعشر و علق بذهني منه شئ كثير لا أزال احفظه حتى اليوم وقد بلغت الثمانين من أعوام عمري. ثم طبع للمرة الثانية في بيروت سنة 1910 م وغير ترتيبه عما في الطبعة الأولى بالتقديم والتأخير وشاركت الطبعة الثانية الأولى في نقصان القصائد والابيات وفي الأغلاط وزادت عليها في الغلط كثيرا وأفسده طابعه زيادة على الغلط بما علقه عليه من الشروح التي لا يكاد يمت شئ منها إلى صواب. فمن طريق ما جاء فيها نذكره تفكهة للمطالع ونموذجا لتلك الشروح: ما ذكره في شرح قوله: (وخلى أمير المؤمنين عقيل)، فقال: اي خلى أمير المؤمنين سيف الدولة قبيلة عقيل الذين قادهم ندى بن جعفر. وفي شرح: (منكم علية أم منهم) ان علية اسم امام من كبار المحدثين. وأدرج الأبيات الثلاثة التي قيلت في عبد الله بن طاهر وأولها (له يوم بؤس فيه للناس أبؤس) في ضمن قصيدة لأبي فراس. إلى غير ذلك مما يجده المطالع.
وكم كنت متألما ان لا يكون ديوان هذا الشاعر العربي العظيم الفذ مطبوعا طبعا متقنا صحيحا كاملا فبحثت عن نسخه المخطوطة حتى وقع بيدي بتوفيقه تعالى منها اربع نسخ منها نسختان رتبهما كاتبهما على حروف المعجم والباقي غير مرتب واحداها ناقصة واشتركت ثلاث منها في ذكر الوقائع التي ذكرها ابن خالويه في الشرح كما اشتركت في الغلط والتحريف الذي يصعب معه معرفة الصواب الا انني استطعت بعد مزيد التأمل والتعب الشديد ومقابلة النسخ بعضها ببعض ومراجعة الكتب ان استخرج منها نسخة صحيحة كاملة مرتبة على حروف المعجم سالمة من الغلط والتحريف الا في مواضع يسيرة بقيت مستغلقة وشرحت ما استغلق من ألفاظه اللغوية وما أشير اليه من الحوادث والوقائع الا قليلا منها لم يتيسر لي الاطلاع عليه كما انني عثرت أثناء بحثي وتنقيبي في كتب الأدب والتاريخ وغيرها على شعر له غير يسير خلت عنه هذه النسخ الأربع والنسخة المطبوعة فكانت هذه النسخة التي جمعتها نسخة فريدة في بابها خدمت بها الأدب العربي وحاميت عن شعر هذا الشاعر العظيم ان تعبث به أيدي التحريف والتصحيف والنقصان ومثلتها للطبع فكان مجموع أبيات النسخة التي جمعتها (3430) بيتا أو أزيد بزيادة (1156) بيتا عن النسخة المطبوعة البالغ عدد أبياتها 2274 بيتا وأرجو ان لا يكون فاتني شئ من شعره بعد هذا التفتيش الطويل والتنقيب الكثير.
ومما يلاحظ في ديوان أبي فراس كثرة اختلاف نسخه كثرة مفرطة جدا حسبما رأيناه في النسخ التي عثرنا عليها وفي كتب الأدب (أولا) في اللفظة الواحدة أو الجملة الواحدة أو البيت الواحد فتجدها مغيرة بما يرادفها أو يقارب معناها (ثانيا) في ترتيب الأبيات بالتقديم والتأخير (ثالثا) في القصائد بالزيادة والنقصان (رابعا) في بعض القصائد المتحدة الوزن والقافية ففي نسخة جعلت القصيدتان أو أكثر قصيدة واحدة وفي أخرى قصيدتين إلى غير ذلك مما يتعسر حصره. ويمكن كون سبب ذلك أنه القى شعره إلى ابن خالويه فجمعه ورتبه وغير بعض ألفاظه إلى ما رآه أحسن واسقط بعض الأبيات التي لم يرتضها وغير ترتيب بعضها بعد ان رخص له أبو فراس في جميع ذلك ويمكن ان يكون أبو فراس نفسه قد وقع منه هذا أو بعضه وكانت هذه القصائد قد انتشرت ورواها الرواة على حالها الأول فوقع الاختلاف من جراء ذلك ويمكن ان يكون وقع تغيير في الديوان من ابن خالويه أو من أبي فراس بعد انتشار نسخة فقد كان أبو فراس في عصر قد راج فيه سوق الشعر والأدب رواجا عظيما وكان لأبي فراس وعشيرته من الصيت ما يحمل الكثيرين على نسخ ديوانه ورواية شعره. وربما يرشد إلى هذا قول ابن خالويه السابق: ويحظر علي نشره حتى سبقتني به الركبان. ويمكن ان يكون ما ألقاه أبو فراس إلى ابن خالويه من شعره قد نقص منه بعض القصائد أو المقطعات التي ذهل عنها أبو فراس ورواها الرواة فألحقها الناس ببعض نسخ الديوان وبقي البعض الآخر خاليا عنها اما جعل القصيدتين واحدة فمن جهل الرواة.