المرعث بشار وابن أوس أبو تمام. وحسبك انه اعتنى بجمع ديوانه أعاظم العلماء والأدباء أمثال أبي بكر الصولي، كما يأتي عند ذكر مؤلفاته.
وحسبك ان يكون لديوانه عشرة شروح لجماعة بينهم أعاظم العلماء والأدباء أمثال ابن المستوفي والخطيب التبريزي وأبي بكر الصولي وأبي العلاء المعري والآمدي وغيرهم. وكفاه - ما يأتي في اخباره - أنه لما اعترض على قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم * في حلم أحنف في ذكاء أياس فقيل له: الأمير فوق من وصفت، أجاب على البديهة بجواب لا يتصور متصور أن يجاب بأسد منه أو بمثله فقال:
لا تعجبوا ضربي له من دونه * مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره * مثلا من المشكاة والنبراس فلو لم يكن له إلا نظم هذا الجواب بهذه البديهة لكفاه.
من عاب شعر أبي تمام يمكن تقسيم العائبين لشعر أبي تمام إلى أربعة أقسام (الأول) من حمله الحسد والعداوة على ذلك أمثال دعبل وابن المدبر وابن الأعرابي وغيرهم كما يأتي عند ذكر أخبارهم معه (الثاني) من حملهم الجهل بمعاني شعره على ذلك (الثالث) من عابه لقرنه بين الجيد والردئ (الرابع) من أراد بذلك الشهرة. فمن القسم الثاني ما في أخبار أبي تمام للصولي:
حدثني محمد بن الحسن اليشكري قال أنشد أبو حاتم السجستاني شعرا لأبي تمام فاستحسن بعضه واستقبح بعضا وجعل الذي يقرأه يسأله عن معانيه فلا يعرفها أبو حاتم فقال ما أشبه شعر هذا الرجل إلا بثياب مصقلات خلقان لها روعة وليس لها مفتش (اه) (مفتش) بفتح التاء المشددة أي إذا فتشت ودقق النظر فيها ظهرت بخلاف ما يتراءى منها.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال كنا عند التوجئ فجاء ابن لأبي رهم السدوسي فأنشده قصيدة لأبي تمام يمدح بها خالد بن يزيد أولها طلل الجميع لقد عفوت حميدا * وكفى على رزئي بذاك شهيدا (1) قال فجعل يضطرب فيها وكنت عالما بشعره فجعلت أقومه فلما فرع قال يا أبا محمد كيف ترى هذا الشعر؟ فقال فيه ما أستحسنه وفيه ما لا اعرفه ولم اسمع بمثله، فإما ان يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعا وإما ان يكون الناس جميعا أشعر منه (اه). ومن القسم الثالث ما في اخبار أبي تمام للصولي: حكي عن ابن مهرويه عن أبي هفان قلت لأبي تمام تعمد إلى درة فتلقيها في بحر قذ فمن يخرجها غيرك (اه). وستعرف أن مثل هذا إذا وقع يكون عيبا على فعل الشاعر لا على شاعريته. وقسم الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك الذين عابوا أبا تمام إلى ثلاثة أصناف: صنف جهلوا مراده فعابوه، وصنف أرادوا ان يشتهروا بذلك فيقال انهم عابوا أبا تمام وصنف صحفوا كلامه فعابوه بما لم يقله، وأشار إلى الصنف الأول فقال: انا مبتدئ بالجواب عن خلاف بعض الناس في أبي تمام والأسباب التي وقع لها ذلك: أما ما حكي عن بعض العلماء في اجتناب شعره ولا اسمي منهم أحدا لصيانتي لأهل العلم جميعا فلا تنكر ان يقع منهم ذلك، وعلله بما حاصله ان أشعار الأوائل قد رويت لهم وفسرت فهم يقرأونها سالكين سبيل غيرهم في تفاسيرها واستجادة جيدها وعيب رديها. وألفاظ القدماء وإن تفاضلت فإنها تتشابه وبعضها آخذ برقاب بعض، فيستدلون بما عرفوه منها على ما أنكروه ولم يجدوا في شعر المحدثين منذ عهد بشار من يرويها لهم ويفسرها ولم يعرفوا ما كان يضبطه يعني أبا تمام و - يقوم به وقصروا فيه فجهلوه فعادوه كما قال الله عز وجل: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه. وكما قيل إن الإنسان عدو ما جهل ومن جهل شيئا عاداه، وفر العالم منهم إذا سئل ان يقرأ عليه شعر أحد من المحدثين من قول لا أحسن إلى الطعن وخاصة على أبي تمام لأنه أقربهم عهدا وأصعبهم شعرا ثم استشهد على ذلك بما حكاه بقوله ولقد حدثني بنو نيبخت وما رأيت أبا العباس أحمد بن يحيى على جلالته عند أحد أجل منه عندهم وكلهم ينتسب إليه في تعليمه أنه قال لهم أنا أعاشر الكتاب كثيرا وأكثر ما يجري في مجالسهم شعر أبي تمام ولست أعلمه فاختاروا لي منه شيئا فاخترنا منه له ودفعناه إليه فمضى به إلى ابن ثوابة فاستحسنه فقال له إنه ليس مما اخترت وإنما اختاره لي بنو نوبخت. فكان ينشدنا البيت من شعر أبي تمام يقول ما أراد بهذا؟ فنشرحه له فيقول أحسن والله وأجاد. فهذه قصة إمام من أئمة الطاعنين عليه عندهم. قال فاما الصنف الثاني ممن يعيب أبا تمام فمن يجعل ذلك سببا لنباهة واستجلابا لمعرفة إذ كان ساقطا خاملا فألف في الطعن عليه كتبا واستغوى عليه قوما ليعرف بخلاف الناس، وقد قيل خالف تذكر. وقالت أعرابية لابنها إذا جالست الناس فأحسنت ان تقول كما يقولون فقل والا فخالف تذكر. وقال عن الصنف الثالث وقد رأيت بعض هؤلاء الجهلة يصحف أيضا على أبي تمام ثم يعيب ما لم يقله أبو تمام قط (اه). وقال في موضع آخر وما أحسب شعر أبي تمام مع جودته وإجماع الناس عليه ينقص بطعن طاعن عليه في زماننا هذا لأني رأيت جماعة من العلماء المتقدمين ممن قدمت عذرهم في قلة المعرفة بالشعر ونقده وقد طعنوا على أبي تمام في زمانهم وزمانه فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب من علماء الملوك ورؤساء الكتاب الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه حتى كان هو يعطي الشعراء في زمانه ويشفع لهم وكل محسن فهو غلام له وتابع أثره (اه). وقال في موضع آخر: ومثل هذا من نقص ذوي الفضل والمتقدمين في الصنائع من جميع الناس قبيح وهو من العلماء أقبح نعوذ بالله من أتباع الهوى ونصر الخطا والكلام في العلم بالمحل (2) واللجاج والعصبية. ولو وهم أبو تمام في بعض شعره أو قصر في شئ منه لما كان من ذلك مستحقا أن يبطل إحسانه كما أنه قد عاب العلماء على امرئ القيس ومن دونه من الشعراء القدماء والمحدثين أشياء كثيرة أخطأوا الوصف فيها، وغير ذلك مما يطول شرحه، فما سقطت بذلك مرتبتهم، فكيف خص أبو تمام وحده بذلك لولا شدة التعصب وغلبة الجهل. وقال الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك: وليت أبا تمام مني بعيب من يجل في علم الشعر قدره أو يحسن به علمه، ولكنه مني بمن لا يعرف جيدا ولا ينكر رديئا إلا بالادعاء، وهذا كما قال زياد بن عبيد الله الحارثي:
فلو اني منيت بهاشمي * خؤولته بنو عبد المدان صبرت على مقالته ولكن * تعالي فانظري بمن ابتلاني