التي قبلها فبينا أنا في جمعة من تلك الجمع ودعبل وأبو الشيص وابن أبي فنن (1) والناس يستمعون انشاد بعضنا بعضا أبصرت شابا في أخريات الناس جالسا في زي الاعراب وهياتهم فلما قطعنا الإنشاد قال لنا قد سمعت انشادكم منذ اليوم فاسمعوا انشادي قلنا هات فأنشدنا فحواك دل (عين) على نجواك يا مذل (2) * حتام لا يتقضى قولك الخطل فان اسمح من تشكو اليه هوى * من كان أحسن شئ عنده العذل ما أقبلت أوجه اللذات سافرة * مذ أدبرت باللوى أيامنا الأول إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر * فانظر على أي حال أصبح الطلل كأنما جاد مغناه فغيره * دموعنا يوم بانوا فهي تنهمل ولو ترانا وإياهم وموقفنا * في موقف البين لاستهلالنا زجل من حرقة أطلقتها فرقة أسرت * قلبا ومن غزل في نحره غزل (3) وقد طوى الشوق في أحشائنا بقر * عين طوتهن في أحشائها الكلل ثم مر فيها حتى انتهى إلى قوله:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له * حتى ظننت قوافيه ستقتتل (4) قال فعقد أبو الشيص عند هذا البيت خنصره ثم مر فيها إلى آخرها فقلنا زدنا فأنشدنا:
دمن ألم بها فقال سلام * كم حل عقدة صبره الإلمام ثم أنشدها إلى آخرها وهو يمدح فيها المأمون (5) واستزدناه فأنشدنا * قصيدته التي أولها:
قدك اتئب اربيت في الغلواء * كم تعذلون وأنتم سجرائي (6) حتى انتهى إلى آخرها فقلنا له لمن هذا الشعر فقال لمن أنشدكموه قلنا ومن تكون قال أنا أبو تمام حبيب بن أوس الطائي فقال له أبو الشيص تزعم أن هذا الشعر لك وتقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له * حتى ظننت قوافيه ستقتتل قال نعم لأني سهرت في مدح ملك ولم أسهر في مدح سوقة (7) فعرفناه (فرفعناه) حتى صار معنا في موضعنا ولم نزل نتهاداه بيننا وجعلناه كأحدنا * واشتد اعجابنا به لدماثته وظرفه وكرمه وحسن طبعه وجودة شعره وكان ذلك اليوم أول يوم عرفناه فيه ثم ترقت حاله حتى كان من أمره ما كان. وهذه القصيدة من غرر مدائحه في المعتصم يقول فيها بعد ما تقدم فرغن للشجو حتى ظل كل شج * حران في بعضه عن بعضه شغل طلت دماء هريقت عندهن كما * طلت دماء هدايا مكة الهمل هانت على كل شئ فهو يسفكها * حتى المنازل والاحداج والإبل يخزي ركام النقا ما في مآزرها * ويفضح الكحل في أجفانها الكحل تكاد تنتقل الأرواح لو تركت * من الجسوم إليها حين تنتقل بيمن معتصم بالله لا أود * بالدين مذ ضم قطريه ولا خلل يهني الرعية أن الله مقتدر * أعطاهم بأبي إسحاق ما سألوا صلى الإله على العباس وانبجست * على ثرى رحله الوكافة الهطل أبو النجوم التي ما ضر ثاقبها * ان لم يكن برجه ثور ولا حمل ومشهد بين حكم الذل منقطع * صاليه أو بحبال الموت متصل ضنك إذا خرست أبطاله نطقت * فيه الصوارم والخطية الذبل لا يطمع المرء أن يجتاب غمرته * بالقول ما لم يكن جسرا له العمل جليت والموت مبد حر صفحته * وقد تفرعن في أفعاله الاجل آل النبي إذا ما ظلمة طرقت * كانوا لنا سرجا أنتم لها شعل قوم إذا وعدوا أو أوعدوا عمروا * صدقا مذانب ما قالوا بما فعلوا أسد العرين إذا ما الموت صبحها * أو صبحته ولكن غابها الأسل إلى ثمال بني الدنيا الذي حليت * بحلي معروفه الأمنية العطل يحميه حزم لحزم البخل مهتضم * جودا وعرض لعرض المال مبتذل فكر إذا راضه راض الأمور به * رأي تفنن فيه الريث والعجل أخباره مع البحتري البحتري في الطبقة العالية من شعراء الدولة العباسية قل أن يدانيه أحد وكان طائيا كأبي تمام ويقال لهما الطائيان وقد كان أبو تمام مثقف البحتري ومربيه ومعلمه طرائق الأدب والمشفق عليه والموصي به الناس وكان البحتري يعرف له ذلك ويعترف بفضله عليه.
في كتاب المثل السائر لابن الأثير وأنوار الربيع للسيد علي خان حكي عن البحتري قال كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت ارجع فيه إلى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت اليه واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي:
وصايا أبي تمام للبحتري في نظم الشعر يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة من الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شئ أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم وإذا شرعت في نظم الشعر فتغن به فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه واجتهد في ايضاح معانيه فان أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق والفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء