تناقض بين الروايتين: الرواية القائلة بأن خالدا هو الذي أوعز بالترجمة، والقائلة بأن الذي حث عليها هو جابر بن حيان بعد ما يقرب من سبعين عاما، إذ الحق في ذلك ان حركة الترجمة بدأت مبكرة، ولكنها كانت ضعيفة وفي نطاق ضيق، ثم اشتدت زمان الرشيد، ثم في عصر المأمون، ولم ينقطع طلب الكتب اليونانية من مظانها ولا نقلها إلى عصر متأخر، وكانت تلك الكتب تترجم أكثر من مرة.
ولما وقعت نكبة البرامكة وانزل الرشيد غضبه عليهم، فتك بهم وبجميع من كان يلوذ بهم، فأصابه رشاش المحنة. وقيل في سبب محنته:
ان أهل الحسد والطغيان دسوا له الدسائس، حتى اشرف على القتل مرارا، ومن جملة هذه الدسائس انه يخفي سر صنعته ويحتفظ به لنفسه (فلم يسعه بعد ذلك الا ان باح ببعض شئ من الحكمة الصنعوية على ترتيب الظاهر والأبواب البرانية للرشيد وليحيى بن برمك ولولديه الفضل وجعفر وأوصلهم إلى غنى الدهر) حسب رواية الجلدكي. وفي هذه القصة من التهافت ما لا يحتاج إلى دليل، لأن ثروة الرشيد والبرامكة لم تكن بسبب هذه الصنعة، بل من خراج الولايات، وغلة الضياع الواسعة. ولكن خيال الرواة يتسع للقول بأنه: (وبالجملة ان مكارم بني برمك لم تكن الا من هذه الصناعة لا من أموال الدولة. ولم يكن لبني العباس هذا البذل العظيم الا من هذه الصنعة. وكذلك أول الدولة الفاطمية لمصر والمغرب لم يتم لهم ما تم من الملك والقوة الا بهذه الصناعة).
(عن الجلدكي بعد ذكر النص السابق مباشرة).
وتدل رواية ابن النديم (1) على أن جابرا كان مستقرا بالكوفة، وبخاصة بعد محنة البرامكة، وان لم تكن القصة (2) صحيحة في تفصيلاتها، فلا ريب ان جابرا كان يقتني معملا كيميائيا يجري فيه العمليات من تقطير وتطهير وتصعيد مما يحتاج اليه في التدبير.
ويزعم هولميارد: ان المصدر الذي استقى منه جابر علومه في الكيمياء، وهو الأفلاطونية الحديثة، كانت تتجه نحوا صوفيا، وعن هذا الطريق تأثر بالتصوف. ومن الغريب ان ذا النون المصري يذكر أيضا انه كان يجمع بين الصنعة والتصوف، بدأ بالكيمياء، ثم عدل عنها إلى النزعة الصوفية.
مقال الدكتور محمد يحيى الهاشمي من مقال نشره في الجزء العاشر من المجلد 33 من مجلة العرفان:
لدى مطالعتنا للتراث الضخم الذي خلفه لنا جابر بن حيان عن الكيمياء نرى اعترافا صريحا بان المعلم لهذه الصنعة هو الإمام جعفر الصادق (3) وقد اطلع على هذه الحقيقة كثير من المستشرقين الغربيين، فاعتقدوا ان في ذلك مبالغة عظيمة، وفي النقد الذي وجهه كل من روسكا وباول كراوس (4) بأنه لمن المستحيل على جعفر ان يلم هذا الالمام العظيم بالعلوم والفنون التي ذكرها جابر في المخطوطات التي وصلت الينا والتي يوجد منها عدد غزير في القاهرة والتي لم تدرس الدراسة الكافية، ويقول روسكا في هذا الصدد انه لمن المستحيل على جعفر ان يكون كيميائيا، فليس من الممكن ان يتعاطى تلك الصنعة، سواء كان ذلك عمليا أو نظريا وهو في المدينة. ولقد أعجب بحق كل من برتلو الافرنسي وهولميارد الانكليزي بالمعلومات الغزيرة التي تسند إلى جابر.
وقد اقتفى أثر روسكا بأول كراوس مبينا في التقرير السنوي الثالث لنشرات تاريخ العلوم الطبيعية التي تصدر في برلين العلاقة الشديدة بين جابر والإسماعيلية.
هذه هي الملاحظات السطحية التي يذكرونها دون تمحيص أقوال جابر نفسها المتعلقة بأستاذه جعفر ساعين لتحليل تلك الأقوال على ضوء العلم الصحيح.
يذكر هولميارد في كتابه الذي الفه باللغة الإنكليزية عن صانعي الكيمياء عن جعفر بأنه التقى مع جابر وحصلت بينهما صداقة قوية، كالصلة التي تحصل بين المعلم الروحي وتلميذه بيد أنه لا يتطرق إلى ما تطرق اليه روسكا من قبل، ويلاحظ إسماعيل مظهر في مقاله عن جابر من كتاب تاريخ الفكر العربي بان في مذهب روسكا كثيرا من مواطن الشك للأسباب الآتية:
1 - لم يستدل من التواريخ الموثوق بها أن جعفرا امضى كل حياته بالمدينة لم يبرحها.
2 - إن قول الأستاذ روسكا في أنه لم يعرف أن المدينة كانت مركزا لدراسة الكيمياء إن كان صحيحا فإن صحته لا تنافي مطلقا أن يكون الإمام جعفر قد درس الكيمياء في مكان آخر 3 - ان علم الكيمياء لم ينتعش ويتحرر إلا بين أيدي الفارسيين أولا، وأنهم كانوا يعكفون على الاشتغال به.
4 - إن الصوفيين غالبا ما كانوا يدخلون المصطلحات الكيميائية في أشعارهم الباطنية.
5 - ولهذا نقول بان جعفرا إذا كان من عمد الشيعة وأئمتها الكبار، وإذا كان على اتصال بشيعي فارسي، فلهذا لا يوجد من سبب ظاهر يحول دون الاعتقاد بأنه كان يشتغل بعلم الكيمياء من طريق نظري على الأقل، إن لم يكن من طريق عملي تجريبي.
6 - إن جابرا كان صوفيا كما هو مرجح من مقدمة كتاب السموم، ومن ترجمة القفطي له في تاريخ الحكماء.
7 - إن العادة في الطريقة الصوفية ان يتبع كل صوفي منهم شيخا له ولا يبعد أن يكون جابر قد تتلمذ بالفعل على جعفر في الصوفية، ولا يبعد أن يكون قد سمع منه شيئا في الكيمياء.
يذكر إسماعيل مظهر هذه الاحتمالات دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن آثار جابر نفسها، وعما يذكره جابر عن إمامه الكبير وعن جواز هذه الصلة حسبما وصلنا من الاخبار. ويجب أن نعرب عن أنفسنا بان الكتب الموجودة بصفة مخطوطات في القاهرة والمكتبة الأحمدية في حلب حسب اطلاعي لم تهيأ للنشر والمطالعة، ولا يمكننا أن نعطي حكما ينطبق على الواقع أو يقاربه دون أن تكون جميع تلك الآثار في متناول اليد، قد نشرت