يا أيها الملك النائي برؤيته * وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي املا * ان السماء ترجى حين تحتجب البقاء على العهد قال من أبيات:
فلم يبق مني طول شوقي إليهم * سوى حسرات في الحشى تتردد خليلي ما ارتعت طرفي ببهجة * ولا انبسطت مني إلى لذة يد ولا حلت عن عهدي الذي قد عهدتما * فدوما على العهد الذي كنت أعهد الرجوع إلى المودة بعد المباعدة قال في عبد الله بن البر الطائي من أبيات:
ذقنا الصدود فلما اقتاد أرسننا * حنت حنين عجول بيننا الرحم سيعلم الهجر انا من إساءته * وظلمه بالوصال العذب تنتقم اما الوجوه فكانت وهي عابسة * اما القلوب فكانت وهي تبتسم سعاية من رجال لا طباع لهم * قالوا بما جهلوا فينا وما علموا إذا خدمنا القلى جهلا بنا وعمى * فاليوم نحن جميعا للرضي خدم الهجاء كان أبو تمام كسائر الشعراء الذين يكتسبون ويرتزقون بشعرهم فيمدحون الشخص بما ليس فيه ويبالغون في المدح والكذب فيه ويمدحون الفسقة والظلمة و قد يصفونهم بأعلى من صفات الأنبياء والمرسلين ويهجون من منعهم أو لم ترضهم جائزته بأقبح الهجو وأقذعه وأفحشه ويثلبون الاعراض ولا يتورعون عن شئ في هذا السبيل فكانت يهابهم لأجل ذلك الخلفاء والملوك والامراء فمن دونهم فعندهم لأخذ الجوائز وسائل (إحداها).
المدح الذي يرغب فيه كل أحد ولو كان بالباطل إلا ما ندر والمدح بالشعر يرغب فيه أكثر من غيره لأنه مما يحفظ وينتشر وتطرب وتهتز له النفوس ويستهوي الألباب وتحدى به الركاب وينشد في المحافل ويبقى على مر الدهور لا سيما إذا كان من شاعر مشهور جيد الشعر متفنن في أساليب الشعر وكثيرا ما يرتفع به الوضيع وتقضي به الحوائج كما حصل في مواضع كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (ثانيتها) هجو أعداء الممدوح الذي كان يعتمده الشعراء في أثناء مدائحهم لمن يمدحونه لعلمهم بان ذلك مما يعجبهم ويسرهم فهو احدى الوسائل لبعثهم على العطاء (ثالثتها) الهجو الذي يخاف منه الناس أكثر من خوفهم من السلاح للعلة المتقدمة في المدح من اشتهاره وانتشاره بين الناس وحفظهم له وبقائه على مر الدهور وهجا بعضهم قاضيا بقوله:
إذا كلمته ذات دل لحاجة * وهم بان يقضي تنحنح أو سعل فقال المهجو ربما أخذني السعال وأنا في المستراح فاحبسه لما شاع من هذا الشعر وقال شاعر في الشعبي:
فتن الشعبي لما * رفع الطرف إليها فحفظه الناس حتى القصارون فمر الشعبي على قصار وهو يقول (فتن الشعبي لما) ويكرره ولا يحفظ تمام البيت فأتمه له الشعبي. وعظماء الملوك وان كان يمكنهم عقاب من يهجوهم بالحبس والضرب بل بالقتل الا انهم علموا أن ذلك لا يغسل عنهم عار الهجاء الذي ينتشر ويحفظ فكان عقلاؤهم لا يلجأون إلى هذه الطريق لعلمهم بأنها لا تفيد بل يحافظون على ارضاء الشاعر لئلا يهجوهم ويرون أن الدفع أسهل من الرفع ومن لجأ إليها أولا عاد عنها ثانيا فهشام بن عبد الملك لما مدح الفرزدق زين العابدين عليه السلام بالقصيدة المشهورة أمامه وأمام أكابر أهل الشام وغاظه ذلك أمر بحبسه فهجاه في الحبس بقوله:
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينا له حولاء باد عيوبها فاضطر هشام إلى اطلاقه خوفا أن يقول فيه ما هو أدهى وأمر وحفظ الناس هذا الهجاء واستمر حفظه إلى اليوم وبعد اليوم وبشار لما هجا موسى الهادي بالبيتين المشهورين امر بضربه حتى مات ولكن ذلك لم يغسل عنه وصمة الهجاء الذي حفظه الناس وأودعه المؤلفون كتبهم وكان بنو أمية يكرمون الفرزدق وهم يعلمون تشيعه لأهل البيت أعدائهم الألداء فيحتملون ذلك منه طلبا لمدحه وخوفا من هجائه وهذا باب واسع لا يمكننا استيفاؤه بهذه العجالة ومر عند الكلام على شاعرية أبي تمام ما يرتبط بالمقام فراجع. ومرت له أهاج في جماعة عند ذكر اخباره معهم وقال يهجو الجلودي حين انهزم من النويرة من قصيدة.
الله أعطاك الهزيمة إذ * جذبتك أسباب الردى جذبا لاقتك ابطال تحث إلى * ضنك المقام شوازبا قبا فنزلت بين ظهورهم أشرا * فقروك ثم الطعن والضربا في حيث يلفي الرمح يشرع في نطف الكلى والمرهف العضبا والخيل سانحة وبارحة * والموت يغشى الشرق والغربا والبيض تلمع في أكفهم * رأد الضحى فتخالها شهبا وأتتك خيل لو صبرت لها * لنهبن روحك في الوغى نهبا من حي عدنان وإخوتهم * قحطان لاميلا ولا نكبا وعصمت بالليل البهيم وقد * القى عليك ظلامه حجبا وقال في أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد من أبيات:
فما أنت اللئيم أبا ولكن * زمان سدت فيه هو اللئيم أتطمع أن تعد كريم قوم * وبابك لا يطيف به كريم كمن جعل الحضيض له مهادا * ويزعم أن اخوته النجوم لنمت ونام عرضك والقوافي * سواخط لا تنام ولا تنيم وقال يهجو يوسف السراج الشاعر المصري من أبيات:
سمعت بكل داهية نآد * ولم اسمع بسراج أديب أما لو أن جهلك كان علما * إذا لنفذت في علم الغيوب فما لك بالغريب يد ولكن * تعاطيك الغريب من الغريب فلو نبش المقابر عن زهير * لصرح بالعويل وبالنحيب متى كانت قوافيه عيالا * على تفسير بقراط الطبيب فكيف ولم يزل للشعر ماء * يرف عليه ريحان القلوب وقال:
وما ان سمعت ولا أراني سامعا * حتى الممات بشاعر سراج وما يمنع السراج أن يكون أديبا شاعرا كما لم يمنعه هو كونه غلام حائك وسقاء للماء بالجرة أن يكون من أعاظم الشعراء ولكنه الشعر وأفانينه والهجاء وتشعباته. وقال في ابن الأعمش ومغنية له انا مجمل لكم سماجتها * وجه ابن الأعمش عندها قمر ومفسر لكم غثاثتها * لفظ ابن الأعمش عندها سمر وقال في أهل سامراء وتعرف بالعسكر.
سأوطئ أهل العسكر الآن عسكرا * من الذل محاء لتلك المعالم فاني ما حورفت في طلب الغنى * ولكنكم حورفتم في المكارم