ثم قطع المنشد فقال له عمارة زدنا من هذا فوصل نشيده وقال:
ولكنني لم وفرا مجمعا * ففزت به الا بشمل مبدد ولم تعطني الأيام نوما مسكنا * ألذ به إلا بنوم مشرد فقال عمارة: لله دره لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنى جميع من سبقه إليه على كثرة القول فيه حتى لقد حبب الاغتراب! هيه فأنشده:
وطول مقام المرء في الحي مخلق * لديباجيته فاغترب تتجدد فاني رأيت الشمس زادت محبة * إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد فقال عمارة كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واستواء (واتساق) الكلام فصاحبكم هذا أشعر الناس وإن كان بغيره فلا أدري (اه). ويأتي ان الثعالبي في خاص الخاص قال إن هذين البيتين أحسن ما قيل في الحث على الاغتراب. وفي الأغاني أخبرني عمي حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال كان عمارة بن عقيل عندنا يوما فسمع مؤدبا كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام - في قوم مصلوبين - (الحق أبلج والسيوف عواري) فلما بلغ إلى قوله:
سود اللباس كأنما نسجت لهم * أيدي السموم مدارعا من قار بكروا وأسروا في متون ضوامر * قيدت لهم من مربط النجار لا يبرحون ومن رآهم خالهم * أبدا على سفر من الأسفار فقال عمارة: لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه كأنه موقوف عليه. وفي أخبار أبي تمام للصولي رواية هذا الخبر بنحو آخر قال: حدثني محمد بن القاسم بن خلاد (هو أبو العيناء) قال دخلت إلى محمد بن منصور فوجدت عنده عمارة بن عقيل وهو ينشده قصيدة له في الواثق أولها:
عرف الديار رسومها قفر * لعبت بها الأرواح والقطر فلما فرع منها قلنا له ما سمعنا أحسن من هذه الرائية أحسن الله إليك يا أبا عقيل، فقال والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها، قلنا له وما هي؟ قال كلمته التي هجا بها الأفشين (واسمه خيذر بن كاوس من قواد المعتصم وجهه لحرب بابك الخرمي فقبض عليه وحمله إلى المعتصم فقتله وصلبه ثم علم المعتصم زندقة الأفشين فقتله وصلبه على خشبة بابك) فقال محمد بن يحيى بن الجهم أنا أحفظها فقال هاتها فأنشده:
الحق أبلج والسيوف عواري * فحذار من أسد العرين حذار فقال له أنشدنا ذكر النار فأنشد:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه * حتى اصطلى سر الزناد الواري نارا يساور جسمه من حرها * لهبا كما عصفرت نصف إزار (صلى لها حيا وكان وقودها * ميتا ويدخلها مع الفجار) رمقوا أعالي جذعه فكأنما * وجدوا الهلال عشية الافطار ثم ذكر المصلبين فقال:
سود اللباس كأنما نسجت لهم * أيدي الشموس (السموم) مدارعا من قار بكروا وأسروا في متون ضوامر * قيدت لهم من مربط النجار لا يبرحون ومن رآهم خالهم * أبدا على سفر من الأسفار فقال عمارة لله دره لقد وجد ما أضله الشعراء حتى كأنه كان مخبوءا له (اه). وهذه القصيدة من مختار شعر أبي تمام، وسنذكرها بتمامها إلا يسيرا منها عند ذكر أخباره مع المعتصم (إنش). وفي أخبار أبي تمام للصولي بالاسناد عن الحسن بن وهب أنه قال في حديث له: وأما الشعر فلا أعرف مع كثرة مدحي له وشغفي به في قديمه وحديثه أحسن من قول أبي تمام في المعتصم بالله ولا ابدع معاني ولا أكمل مدحا ثم انشد:
فتح الفتوح تعالى ان يحيط به * نظم من الشعر أو نثر من الخطب وذكر أكثر هذه القصيدة، وستأتي في اخباره مع المعتصم (انش) ثم قال هل وقع في لفظة من هذا الشعر خلل. كان يمر للقدماء بيتان يستحسنان في قصيدة فيجلون بذلك وهذا كله بديع جيد (اه). وفي الأغاني: أخبرني محمد بن يحيى الصولي حدثني أبو ذكوان قال لي إبراهيم بن العباس ما اتكلت في مكاتبتي قط إلا على ما جاش به صدري وجلبه خاطري إلا اني قد استحسنت قول أبي تمام:
(إذا مارق بالغدر حاول غدرة * فذاك حري ان تئيم حلائله ) فان باشر الاصحار فالبيض والقنا * قراه واحواض المنايا مناهله وإن يبن حيطانا عليه فإنما * أولئك عقالاته لا معاقله وإلا فأعلمه بأنك ساخط * عليه فان الخوف لا شك قاتله فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي فقلت فصار ما كان يحرزهم يبرزهم وما كان يعقلهم يعتقلهم قال ثم قال لي إبراهيم إن أبا تمام اخترم وما استمتع بخاطره ولا نزح ركي فكره حتى انقطع رشاء عمره. وفي الأغاني بسنده عمن سمع إبراهيم بن العباس (الصولي) يقول لأبي تمام، وقد انشد شعرا له في المعتصم: يا أبا تمام امراء الكلام رعية لاحسانك.
وفي الأغاني: أخبرني محمد يحيى الصولي حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي تمام فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه. وفي اخبار أبي تمام للصولي بسنده عن عبد الله بن محمد بن جرير سمعت محمد بن حازم الباهلي الشاعر يصف أبا تمام ويقدمه في الشعر والعلم والفصاحة ويقول: ما سمعت لمتقدم ولا محدث بمثل ابتدائه في مرثيته:
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا * وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا ولا مثل قوله في الغزل:
ما إن رأى الأقوام شمسا قبلها * أفلت فلم تعقبهم بظلام لو يقدرون مشوا على وجناتهم * وعيونهم فضلا عن الأقدام وممن فضل أبا تمام وذم من تعصب عليه السري بن أحمد الرفا من مشاهير شعراء سيف الدولة الحمداني فإنه قال في رجل تعصب على أبي تمام كما في ديوانه:
شعر ابن أوس رياض جمة الطرف * فنحن منه مدى الأيام في تحف لكن كرهناه لما سار في طرق * من فيك مكروهة الأنفاس والنطف والشعر كالريح إن مرت على زهر * طابت وتخبث إن مرت على الجيف وممن فضل أبا تمام سبط بن التعاويذي (المتوفي سنة 553) فقال يذكر قصائده:
عليك جلوتها غرا هجانا * أوانس في القلوب لها قبول لها في قومها نسب عريق * إذا انتسبت وبيت حجى أصيل فعماها المرعث وابن أوس * وجداها المبرد والخليل