الاطلاق والأسر، وقوله أسرت معنى ردئ لأن القلب إنما يأسره ويملكه شدة الحب لا الفراق، فإن لم يكن مأسورا قبل الفراق فما كان هناك حب فلم حضر للتوديع وما كان وجه البكاء والاستهلال والوجل الذي ذكره في البيت السابق بقوله:
ولو تراهم وإيانا وموقفنا * في موقف البين لاستهلالنا زجل (وأقول) نسبة الأسر إلى القلب مجاز، وكما يقال أسره الحب يقال أسره البين والفراق، بل لعل الثاني أكثر، وهو عبارة عن تعلق القلب بالظاعن وشدة الشوق للقياه، ولا شك أن هذه الحالة تكون عند الفراق أشد منها قبله، فيناسب كثيرا نسبة الأسر إلى الفرق فاعتراض الآمدي ساقط بارد.
31 - قال: ومن خطائه قوله.
ما لامرئ خاض في بحر الهوى عمر * إلا وللبين منه السهل والجلد قال الآمدي: وهذا عندي خطأ إن كان أراد بالعمر مدة الحياة لأنه اسم واحد للمدة بأسرها فهو لا يتبعض فيقال لكل جزء منه عمر، كما لا يقال ما لزيد رأس إلا وفيه شجة وما له لسان إلا وهو فصيح وكذلك لا يقال: ما له عمر إلا وهو قصير، وإنما يسوغ هذا فيما فوق الواحد مثل:
ما له ضلع إلا مكسورة. (وأقول) فرق بين قولنا ما لامرئ خاض في بحر الهوى عمر وقولنا ما لزيد عمر أو رأس، فالأول ليس مخصوصا بشخص خاص بل هو عام بمنزلة قولنا ما عمر من الأعمار، فسقط الاعتراض.
32 - قال الآمدي: وقال في علي بن الجهم.
هي فرقة من صاحب لك ماجد * فغدا إذابة كل دمع جامد فافزع إلى ذخر الشؤون وغربه * فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد وإذا فقدت أخا ولم تفقد له * دمعا ولا صبرا فلست بفاقد بعض جهد الجاهد أي بعض جهد الحزن الذي جهدك (يقال جهد دابته أي بلغ جهدها) ولو كان استقام له بعض جهد المجهود لكان أحسن، وقد جاء فاعل بمعنى مفعول كعيشة راضية بمعنى مرضية ولمح باصر أي مبصر فيه لكنه ليس بقياسي (وأقول) يجوز أن يكون الجاهد من جهد بمعنى جد حتى بلغ أقصى جهده وطاقته واستعمل فيمن بلغ أقصى جهده في الحب. قال وقوله: فلم تفقد له دمعا ولا صبرا من أفحش الخطأ لأن الصابر لا يكون باكيا والباكي لا يكون صابرا، ومعناه إذا فقدت أخا فأدام البكاء عليك فلست بفاقد وده وإخوته وهو محصل لك غير مفقود وإن كان غائبا عنك وهذا أراد إلا أنه أفسده بذكر الصبر مع البكاء، وذلك خطأ ظاهر، ثم قال: وذلك غفلة منه عجيبة، وأطال في ذكر توجيهات متسعفة وردها (وأقول) الخطأ من الآمدي والغفلة منه فأبو تمام يقول: (وإذا فقدت أخا فلم تفقد له دمعا) أي لم تبك لفقده فان الباكي يفقد دمعه فيخرجه من عينيه وينثره على خديه وغيرهما، ولذلك عبروا عن ترك البكاء بصيانة الدمع كما قال أبو تمام على مثلها من أربع وملاعب أذيلت مصونات الدموع السواكب وعبر عن الحزن بفقدان الدمع ليطابق قوله (وإذا فقدت أخا) (ولا صبرا) أي لم تفقد صبرك فتحزن لفقده. فأي غفلة من الآمدي أعجب من هذه، وصدق فيه: أساء فهما فأساء إجابة.
33 - قال الآمدي وقال أبو تمام لما استحر الوداع المحض وانصرمت * أواخر السير إلا كاظما وجما رأيت أحسن مرئي وأقبحه * مستجمعين لي التوديع والعنما (العنم) شجر له أغصان لطيفة غضة كأنها بنان جارية الواحدة عنمة كأنه استحسن إصبعها واستقبح إشارتها اليه بالوداع، وهذا خطأ في المعنى، أتراه ما سمع قول جرير.
أتنسى إذ تودعنا سليمى * بفرع بشامة سقي البشام فدعا للبشام بالسقيا لأنها ودعته به فسر بتوديعها، وأبو تمام استحسن إصبعها واستقبح إشارتها، ولعمري إن منظر الفراق منظر قبيح، ولكن إشارة المحبوبة بالوداع لا يستقبحها إلا أجهل الناس بالحب وأقلهم معرفة بالغزل وأغلظهم طبعا وأبعدهم فهما (اه) (وأقول) أراد بأقبح مرئي منظر الفراق الذي اعترف الآمدي بأنه منظر قبيح، والذي قال أبو تمام في البيت الأول أنه أوجب الكظم والوجوم. ولم يرد به إشارتها ببنانها إليه بالوداع، وجرير دعا للبشام لشبهه بأناملها إذ ودعته، وهذا الذي قال عنه أبو تمام انه أحسن مرئي. فقوله لا يستقبحه إلا أجهل الناس بالحب إلى آخره، لا يصدر إلا من أجهل الناس بمعاني الشعر.
34 - قال الآمدي: وقال أبو تمام.
فلويت بالمعروف أعناق الورى * وحطمت بالانجاز ظهر الموعد حطم ظهر الموعد بالانجاز استعارة قبيحة جدا، والمعنى في غاية الرداءة لأن انجاز الموعد هو تصحيحه وتحقيقه، وحطم ظهره انما يكون إذا أخلف الوعد وقال أبو تمام:
إذا وعد انهلت يداه فأهدتا * لك النجح محمولا على كاهل الوعد فهذه استعارة صحيحة وان كان كاهل الوعد قبيحا، قال ومثل البيت الأول في الفساد أو قريب منه قوله:
إذا ما رحى دارت أدرت سماحة * رحى كل إنجاز على كل موعد والمعنى الصحيح قوله:
أبلهم ريقا وكفا لسائل * وأنضرهم وعدا إذا صوح الوعد ومثله في الصحة قوله:
تزكو مواعده إذا وعد امرءا * أنساك أحلام الكرى الأضغاثا أما قوله:
نؤم أبا الحسين وكان قدما * فتى أعمار موعده قصار وقول البحتري:
وجعلت فعلك تلو قولك قاصرا * عمر العدو به وعمر الموعد فان عمر الموعد مدة وقته فإذا أنجز صار مالا فنفاد وقته ليس بمبطل له بل ذلك نقله من حال إلى حال أخرى، ألا ترى إلى البحتري كيف كشف عن هذا المعنى وجاء بالامر من فصه فقال:
يوليك صدر اليوم ما فيه الغنى * بمواهب قد كن أمس مواعدا ثم اتبع البحتري هذا البيت بقوله:
شيم السحائب ما بدأن بوارقا * في عارض إلا انثنين رواعدا