أنشده قصيدة له أحسن في جميعها إلا في بيت واحد، فقال له يا أبا تمام لو ألقيت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب. فقال له أنا والله أعلم منه مثلما تعلم، ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط وكلهم حلو في نفسه، فهو وإن أحب الفاضل لم يبغض الناقص وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر، ثم قال أبو الفرج:
واعتذاره بهذا ضد لما وصف به نفسه في مدحه الواثق حيث يقول:
جاءتك من نظم اللسان قلادة * سمطان فيها اللؤلؤ المكنون أحداكها صنع اللسان يمده * جفر إذا نضب الكلام معين ويسئ بالاحسان ظنا لا كمن * هو بابنه وبشعره مفتون فلو كان يسئ بالإساءة ظنا ولا يفتتن بشعره كنا في غنى عن الاعتذار له (اه). ثم رأينا للصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك كلاما ينحو هذا النحو فإنه بعد ما ذكر الذين عابوا أبا تمام قال: ولو عرف هؤلاء ما أنكره الناس على الشعراء الحذاق من القدماء والمحدثين لكثر حتى يقل عندهم ما عابوه على أبي تمام إذا اعتقدوا الإنصاف ونظروا بعينه، ومنزلة عائب أبي تمام - وهو رأس في الشعر مبتدئ لمذهب سلكه كل محسن بعده فلم يبلغه فيه حتى قيل مذهب الطائي وكل حاذق بعده فلم يبلغه فيه حتى قيل مذهب الطائي وكل حاذق بعده ينسب اليه ويقفي أثره - منزلة حقيرة يصان عن ذكرها الذم ويرتفع عنها الوهد. وقد كان الشعراء قبل أبي تمام يبدعون في البيت والبيتين من القصيدة فيعتد بذلك لهم من أجل الاحسان، وأبو تمام أخذ نفسه وسام طبعه أن يبدع في أكثر شعره فلعمري لقد فعل وأحسن، ولو قصر في قليل - وما قصر - لغرق ذلك في بحور إحسانه، ومن الكامل في شئ حتى لا يجوز عليه خطا فيه إلا ما يتوهمه من لا عقل له. وفي معجم الأدباء أن للآمدي كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده والتعصب على أبي تمام والناس بعد فيه على فريقين فرقة قالت برأيه وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصبه فإنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري ولعمري إن الأمر كذلك وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: (أصم بك الناعي وإن كان أسمعا)، وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين، وفتارة يقول هو مسروق وتارة يقول هو مرذول ولا يحتاج المنصف إلى أكثر من ذلك. إلى غير ذلك من تعصباته ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام (اه).
الأمور التي عيبت على أبي تمام وهي على أنواع (الأول) الأبيات التي ذكروا أن فيها عيوبا شعرية من البيت الواحد والبيتين فأكثر، وهذه قد حكى الصولي في اخبار أبي تمام جملة منها وكذلك الآمدي في الموازنة وذكرنا نحن بعضها، قال الصولي:
وسأذكر شيئا مما عابه عليه من لا يدري وأبينه.
1 - عابوا قوله في قصيدته التي أحسن فيها كل الاحسان ومدح بها المعتصم وذكر فتح عمورية:
تسعون ألفا كآساد الشري نضجت * أعمارهم (جلودهم) قبل نضج التين والعنب فإن كان هذا لأن التين والعنب ليس مما يذكر في الشعر وأنه مستهجن فقد قال ابن قيس الرقيات:
سقيا لحلوان ذي الكروم وما * صنف من تينه ومن عنبه وإن كان العيب لم خصهما دون غيرهما فقد كان يجب أن يتعلم هؤلاء ويطلبوا ثم يتكلموا ويعيبوا. حدثني أبو مالك عون بن محمد الكندي - وما رأيت أعلم بشعر أبي تمام منه وكان قد قرأ على أبي تمام عشرين قصيدة من شعره، وقرأتها عليه سنة 285 فقرأت هذه القصيدة عليه فلما بلغت إلى هذا البيت سألته عن معناه وعن عيب الناس له فقال حدثني أبي قال:
غزوت عمورية مع المعتصم فبلغه أن الروم قالوا - وقد أناخ عليهم - إن هؤلاء إن أقاموا إلى زمان التين والعنب لا يفلت منهم أحد فقال أرجو أن ينصرني الله عز وجل قبل ذلك. قال أبو مالك فأظن أبا تمام ذكر هذا المعنى في بيته. وقال الآمدي في الموازنة: إن أهل التنجيم حكموا بأن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم أنا نجد في كتبنا أن مدينتنا هذه لا تفتح إلا في وقت إدراك التين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام فيها البرد والثلج. فأبى أن ينصرف وأكب عليها حتى فتحها وأبطل ما قالوه، فلذلك قال الطائي:
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حده الحد بين الجد واللعب 2 - قال الصولي وعابوا قوله:
ما زال يهذي بالمواهب دائبا * حتى ظننا أنه محموم فكيف لم يسقطوا أبا نواس بقوله في العباس بن عبد الله بن جعفر:
جدت بالأموال حتى * قيل ما هذا صحيح والمحموم أحسن حالا من المجنون، ولم لم يعيبوا قول الآخر:
بطل تناذره الكماة كأنه * مما يدل على الفوارس أحمق وقد قال عبيد اللص العنبري قبل فألم بهذا المعنى إلا أنه قسمه:
ما كان يعطي مثلها في مثله * إلا كريم الخيم أو مجنون وكيف رضوا قول البحتري في هذا:
إذا معشر صانوا السماح تعسفت * به همة مجنونة في ابتذاله وقد قال أبو نواس:
جدت بالأموال حتى * حسبوه الناس حمقا (أقول) الحق إن هذا كله معيب: نسبة الهذيان، وظن أنه محموم، ونسبة الجنون والحمق، من أي شاعر صدر من أبي تمام أو أبي نواس أو البحتري أو من هو أشعر منهم، والمشاركة في الخطأ لا تجعله صوابا، والتقسيم الذي في بيت عبيد اللص ربما يرفع عنه العيب، وكذلك نسبة الجنون إلى الهمة في بيت البحتري أهون من نسبته إلى الممدوح.
قال وعابوا قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني * صب قد استعذبت ماء بكائي قالوا: ما معنى ماء الملام؟ وهم يقولون كلام كثير الماء وما أكثر ماء شعر الأخطل، قاله يونس بن حبيب، ويقولون ماء الصبابة وماء الهوى يريدون الدمع، قال ذو الرمة:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة * ماء الصبابة من عينيك مسجوم وقال أيضا:
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة * فماء الهوى يرفض أو يترقرق